منذ عده أيّام أستيقظت على صور لعمارة الإسكندرة المائلة والتي انتشرت صورها على منصات التواصل الاجتماعي، صورة سريالية عبثية سلفادورية دالية، أظن أنها لم تخطر على بال ملك السريالية \”سلفادور دالي\” يوما ما، حيث تجاوزت حدود اللا معقول.
عمارة تميل لتحتضنها عمارة أخرى تمنعها من السقوط، صورة تثبت بالدليل الحي \”جدعنة\” أهل الإسكندريه في الوقوف بجانب بعضهم البعض في الأزمات.
وكطبيعة المصريين لن يمر هذا الخبر مرور الكرام، لابد من سخرية ما على هذه الصورة.
الجميع يتساءل كيف لذلك أن يحدث، حتى خرج علينا الخبر اليقين بأن \”عمارة الأسكندرية قد مالت لعدم وجود خوازيق فى الأساسات\” -أظنه خبرا يحتاج للتأمل قليلا- إذًا فلابد من خوازيق حتى تستقيم البناية ولا تميل هذه الميلة!
سألت نفسي مجددا: هل يصلح تطبيق هذه النظرية على النموذج البشري؟ هل لابد من خوازيق في حياتنا حتى نظل صامدين في هذه الحياة.. خوازيق تدعم أساساتنا لتمنعنا من الانهيار في ذلك العالم؟
لأول مرة أشعر بمدى أهمية الخوازيق في حياتي وأنها لم تكن إلا درسا لإرساء قواعدي وبناء شخصيتي حتى أقاوم عوامل تعرية هذه الدنيا.
فلكل منا تجربته المختلفة وخوازيقه باختلاف أشكالها وأحجامها، كل منا له أيضا قوة تحمل مختلفة وسعة معينة لتحملها، سأتحدث لكم في السطور القادمة عن بعض أنواع الخوازيق الشائعة والتي أظن أننا جميعا قد مررنا بها:
خازوق مكتب التنسيق:
مرحَّبا بك في مكتب التنسيق، هنا ليس لديك رفاهية الاختيار كما تظن، وإن حالفك الحظ يوما وكنت من ذوي القدرات الفائقة واستطعت أن تحصل على مجموع جيد في الثانوية العامة فعليك أن تختار بين عدة اختيارات محدودة تُعد على أصابع اليد الواحدة بين ما يسمى كليات قمة أو هكذا كنّا نظن.
اختياراتك تنحصر بين الطب والصيدلة والهندسة، وإن كنت من متوسطي القدرات -زي حلاتي- ولم تُوفق في الحصول على مجموع جيد، فعليك أن تنتظر دورك في المرحلة الثانية والثالثة و\”الترسو\” ليختار لك مجموعك كلية المستقبل التي ستفني فيها زهرة شباب عمرك، لتجد نفسك مُجبرا على خوض التجربة في هذه الكلية.
تُحاول إقناع نفسك أنك خُلقت لهذا المجال فقط، لأنه ليس لديك أي اختيارات أخرى، لابد أن تُكمل الطريق إلى نهايته، طريق لم تختر أن تسير فيه يوما ما، تسير الطريق لتجد في نهايته جدارا، تحاول بكل ما أوتيت من قوة أن تكسره حتى تخرج بعدها إلى عالم ربما تجد شبه فرصة تتشبث بها حتى تصبح نصف فرصة، ومن ثم لربما تتحول إلى فرصة كاملة بعد معاناة، فليس لديك رفاهية الاختيار هنا أيضا بين الفرص، فلا بديل لك غير النجاح، ستنجح ليس لرغبة ملحة لديك في النجاح وإثبات الذات، بل لرعب في داخلك من شبح السقوط في الهاوية والفشل والمصير المجهول الذي ينتظرك إذا فكرت للحظة للرجوع خطوة إلى الخلف.
خازوق زميلك \”العصفورة\”:
مبروك، فقد حصلت أخيرًا على وظيفة أحلامك، لا تفرح كثيرا، فأنت لا تعلم من ينتظرك، بداخل أروقة هذه المكاتب ستجد المدعو \”علي علوكة\” ولربما \”أشرف كُخة\” في انتظارك كما قالها \”اللمبي\” يوما ما، فبالطبع لن تعمل معنا طيارا، ستتعامل مع أنماط بشرية وشخصيات لم تتخيل يوما ما أنها موجودة معنا في هذه الحياة، عليك أن تواجه كل هذا الخطر بنفسك، تتعلم منهم دروسا قاسية، الأنماط كثيرة في هذا المكان فهناك المدير ذو القلب الميت وما أكثرهم، وهناك الموظف الذي لا يبالي لهذا الكون \”ماشي في نور الله بيدعي ويقول يا رب\” أظنه له \”قرايب مهميييييين\” في هذه المؤسسة، وهناك الموظف \”الحمار\” الذي يستطيع إنجاز ما يفعله عشر موظفين، يعود إلى منزله في وقت متأخر ويخرج منه في الْيَوْمَ التالي مبكرا، كائن زومبي لا يري الشمس، فهو داخل مكتبه طول اليوم حتى ساعات متأخرة من الليل.
أما المدير \”المتحرش\” ذلك نمط آخر من المديرين ستراه بعينك، لكنك في أمان منه، فقط لأنك من نفس جنسه، فاليوم فقط تعرف الحكمة الإلهية التي جُعلت فيها ذكرا حتى تحميك من شر هذا الوحش الكاسر لكل ما انتهى أسمه بتاء تأنيث.
لم أتضرر قط من كل هذه الأنماط، ولكني تضررت نفسيًا من ذلك الموظف اللعين وشهرته في جميع المؤسسات \”العصفورة\”، أسمه الحركي بيننا \”ديفيد شارل سمحون\” أو \”أبراهام بن شيفع\” أو \”ليڤي كوهين\” أو أي اسم يصلح لموظف في جهاز المُوساد الإسرائيلي، يلقي فروض الطاعة والولاء لمن يجد مصلحته عنده، يشي بكل من حوله حتى يحصل على ترقية استثنائية نظير مجمل أعماله وخدماته لمدير جهاز الموساد ليقهرك بعدها من داخلك وليفقدك الأمل بأن تحصل على ترقيه باجتهادك، ولابد من أن تسلك السكة \”الشمال\” حتى تحصل على حقوقك، فأنت لم تنل ترقية منذ تاريخ الحملة الفرنسية على مصر، تضررت منه كثيرا، تعلمت كيف أحمي نفسي منه، حين يدخل إلى مكتبنا في مهمة العسس اليومية نتقمص جميعنا دور أحمد السقا في فيلم \”الجزيرة\” حين علم بأن المنزل به ميكروفونات تنصت، لتجد الجميع يردد في صوت واحد \”إحنا خدامين الحكومة\” في إشارة منا للولاء والحب الجم لإدارتنا العليا ولدرء خطره عنا، وإن كنّت يوما تريد إيصال رسالة ما لمدير عن طريقه، فعليك أن تتقمص دور السادات حينما ضلّل أحد السفراء المقربين لإسرائيل قبيل حرب أكتوبر ليعلمه بأنه سيسافر في نفس توقيت الحرب كنوع من أنواع الخداع الإستراتيجي، فقط عليك أن تنهي كلامك بجملة \”هذا الأمر سر بيني وبينك ولا أود أن يعرف أحد به\”، ليصل الخبر إلى إسرائيل بعدها بعد دقائق -اقصد مكتب المدير- أظنها إستراتيجية ناجحة للتعامل بها مع ذلك الشخص اللعين.
خوازيق لاقيناها جميعا، تألمنا بسببها كثيرا أثناء مرحلة التركيبات، ولكننا لم ندرك أنها عين الرحمة وأنها لم تكن إلا دورست لجعل أساساتك أشد صلابة لتقيك من خطر الميل أو الانهيار يوما ما.
للحديث بقيه عن خوازيق عمارة الإسكندرية.