أبو كرتونة، تلك الشخصية التي جسدها محمود عبد العزيز في فيلم يحمل نفس الاسم، حيث تناول الفيلم علاقة فئة العمال بالإدارات العليا للمؤسسات ومدى رضا كل طرف عن الآخر حيث جسد فيها المعاناة التي يلقاها الموظفين في إطار كوميدي ساخر.
شاهدت الفيلم منذ عدة أعوام ولم أتخيل يوما ما بأني وزملائي في العمل سنحمل هذا اللقب، نعم فقد أصبحت \”أبو كرتونة\” حرفيًا بكل ما تحمل الكلمه من معنى، \”كرتونة\” فارغة لعينة أضعها تحت مكتبي في انتظار اللحظة التي يدخل فيها مكتبي المندوب السامي لدى قسم الموارد البشرية ليُعلمني بأن الشركة قد أستغنت عن خدماتي وأن هذا اليوم هو آخر يوم لي معهم ونشكركم على حسن تعاونكم معنا طيلة هذه السنوات الماضية، فالشركة والصناعة تمر بأزمة طاحنة ولابد علينا جميعًا أن نُضحي حتى لا تغرق السفينة، سنضطر آسفين أن نُلقي بك من على متن سفينتنا حتى نستطيع أن نصل بها إلى بر الأمان، لأبدأ بعدها في جمع أغراضي ومتعلقاتي الشخصية سريعًا لأضعها في تلك \”الكرتونة\” اللعينة.
قبل هذا البوم بعدة أعوام كم كنت منتشيًا عندما أخبرني نفس موظف الموارد البشرية بأنه قد تم قبولي معهم لهذه الوظيفة، أخيرًا وجدت وظيفة أحلامي وأخيرًا سأتحرر من قيود وظيفتي في هذا القطاع الحكومي القميء القاتل لأي طموح، أخيرًا سأعمل ما أحب وسيكون لي حرية الإبداع، أخيرا سأفوت \”الميري\”، فكم كنت أكره هذا المثل بشدة والذي كان يردده لي أبي دوما \”إن فاتك الميري أتمرمغ في ترابه\”. لا يا أبي، لا أريد أن \”أتمرمغ\”، فرأيت بعيني أناسا \”أتمرمغت\” في هذا التراب حتى دُفنت بمواهبها تحته أمام عيني، كم كانوا يوما ما أُناسا مبدعين ويمتلكون من القدرات ما هو خارق حتى سلبتهم وظيفتهم الميري كل شئ.
لم أدر حتى هذه اللحظة هل قرار التحرر من قيود \”الميري\” والارتماء في أحضان القطاع الخاص أو الشركات متعددة الجنسيات كان قرارًا صحيحًا أم خطأ بعد كل هذه المعاناة التي لاقيتها.
هنا أيضًا فقدت الولاء للقطاع الخاص -نعم- أجبروني على ذلك بعد ما شاهدت قطع كل هذه الروؤس أمام عيني كبيرا كان أو صغيرا، لا رصيد لك ولن نتذكر ما قد قمت به لنا طيلة هذه السنوات، لغة الأرقام فقط هي التي تتحدث الآن، فنحن نطبق ما غناه محمد منير \”لا يهمني اسمك. لا يهمني عنوانك\”، ولكننا أيضا \”لا يهمنا الإنسان\” يهمنا فقط \”الأرقام\”، أنت بالنسبة لنا مجرد رقم أو بالتحديد رقمين \”رقمك الوظيفي\” ورقم راتبك أو بمعنى أصح تكلفتك، وإذا أحسسنا يوما ما بأن لك بديلا أو أن راتبك يمثل عبئا على الميزانية، فأنت بالتأكيد تستحق لقبك الجديد \”أبو كرتونة\” وعليك بجمع أغراضك الشخصية من المكتب سريعا، فليس لك مكان بيننا، لن نذكُر أي إنجاز قد قمت به \”إحنا ولاد النهاردة\” و\”إن جالك الطوفان حط موظفك تحت رجليك\”.
فقدنا الولاء بسبب هذه العقليات العطنة التي ظنت أنها تعمل لمصلحة المؤسسة، أن يفقد الموظف ولاءه لمكان عمله فلا تسأله بعدها عن أي حماس لوظيفته أو أرباح لهذه المؤسسة، فالجميع يعلم أنه مغادر لا محالة، فلماذا عليّ أن أعمل بجد، فأنا بالنسبة لهم مجرد رقم.
أسأل نفسي مرة أخرى: \”أنا إيه اللي عملته في نفسي ده! كان مالها الحكومة طيب!\”.. أظن بأني كنت لن أبالي بما يحدث حولي في هذا الكون، أعود مبكرا لمنزلنا أحمل بطيخة في يميني وجريدة الجمهورية في يساري كما كان يفعل والدي رحمه الله دوما -أي راحة بال تلك!- فليس مطلوبا منك \”target\” ولا \”deadline \” ولا أنت مهدد كل لحظة بفقد وظيفتك، تُرى من كان منا على حق أنا أم أبي؟
عاصرت بنفسي مشاهد أثناء هذه الفترة العصيبة تصلح سيناريو لفيلم هوليودي، إليك عزيزي القارئ بعض منها:
فهذا مدير يتحدث مع أحد الموظفين عن خطة الشركة في السنوات القادمة وعن المهام المُوكلة إليه أثناء تلك الفترة، ثم يدخل نفس هذا المدير بعدها في نهاية اليوم بصحبة موظف الموارد البشرية ليُخبر نفس الموظف بأن اليوم هو الأخير لك في الشركة وعليك بالرحيل بـ \”الكرتونة\” ونشكركم على حسن تعاونكم معنا، فلماذا كل هذا الغدر!
ومدير آخر يطلب من مدير الموارد البشرية أن يُجهز له قائمة بالأسماء التي يمكن الاستغناء عنها الفترة القادمة ويكلفه بهذه المهمة بحد أقصى نهاية الشهر، حتى إن أتم مهمته بنجاح، إذ يطلب المدير من مدير الموارد البشرية أن يضع اسمه في نهاية القائمة معهم ليُشّربه من نفس الكأس الذي شرّبه لكل هؤلاء الموظفين، فلماذا كل هذا الغدر!
مدير آخر يريد أن يكون خروج موظفه من المؤسسة بشكل آدمي إلى حد ما أو هكذا يظن، إذ يطلب من الموظف بأن يقبل دعوته على الغداء في إحدى المطاعم ليعلمه بعدها بعدة ساعات أنه كان \”العشاء الأخير\” وأن تلك الوجبة لم تكن غير حفل لوداعك وعليك أن تُغادر مؤسستنا اليوم.
لا أخفيكم سرا، أصبح هذا المطعم نذير شؤم للجميع، أصبحنا نتجنب المرور من أمامه أو زيارته مع هذا المدير، فالجميع يعلم فاتورة هذه الوجبة اللعينة.
جدير بالذكر فقد تحطمت أسطورة هذا المطعم عندما دعا ذلك المدير نفسه على حفل وداعه بعد أن أخبرته الإدارة العليا للمؤسسة بأنه عليه حقب أمتعته في \”الكرتونة\”، فلم يصبح لك فائدة بعد اليوم، فلماذا كل هذا الغدر!
أنضجتني كل هذه المشاهد وتعلمت الدرس مبكرا ً، فلابد لي من خطة بديلة تحميني من كل هذا الغدر، خطة بديلة تجعلني يوما ما أستغني عن خدماتهم قبل أن يستغنوا عن خدماتي، خطة بديلة تجعلني أقفز من سفينتهم قبل أن يلقوا بي منها، لأمتطي قاربي الصغير ليوصلني إلى أقرب بر حيث اللاعودة لسفينتهم مرة أخرى، لحظة ستحدث يوما ما.
فقط بدايةً من اليوم سيكون ولائي لوظيفتي فقط، سأبدأ بالاستثمار في نفسي، سأعمل جاهدا على تطوير مهارتي، سأتعلم كل يوم شيئا جديدًا، سأُحاول بكل ما أُوتيت من قوة أن أُعيد اكتشاف نفسي مرة أخرى، ربما أكتشف موهبة ما كانت مدفونة، سأعمل على تنميتها ربما يأتي اليوم وتتحول هذه الموهبة إلى عملي الجديد بعيدًا عن سفينتهم الغارقة، أظن يومها سأتحرر من جميع الأغلال سواء كانت \”ميري\” أو \”خاص\” ذلك اليوم الذي سأخرج من تلك \”الكرتونة\” اللعينة التي وضعت نفسي بداخلها يوما ما.