محمود جمال أحمد يكتب: لولا السراب.. تحليل الاكتئاب والانتحار

\"\"

في العامين الأخيرين نمت قناعتي بفكرة الانتحار كثيرا بل أصبح الانتحار في نظري وسيلة منطقية فعالة للتعامل مع العبث الحياتي. ربما هو مجرد دوار وجودي عادي يلازم طور الشباب رغم أنه يكهل أو في تعبير أبلغ لمولانا صلاح جاهين: (أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام). ودائما أو أحيانا ما يصاحب الاكتئاب هذا الميل الانتحاري سواء كان الاكتئاب عابرا أو مزمنا أو متقطعا. ودائما ما نحاول التلهي عنه عملا بمبدأ: (بص العصفورة!)، لكنه لا يجدي نفعا على المدى الطويل، هو كعود ثقاب، شحيح الضوء في مقابل السواد النامي حولنا، وعمره قصير مثله.
إذن، أهو الهروب أم المجابهة؟ أنكون أم لا نكون؟ أنترك التلهي يجعلنا نؤثر تحمل المكروه الذي نعرفه على الهرب منه إلى المكروه الذي لا نعرفه؟ إنها تراجيدية شكسبيرية في فصليها الأولين.
لنتناقش ولكني أعرف أن دماغك -أيها السوداوي- قِفل. وكما يقول ثيودور رايك في لهجة قلقة: (نحن نزحزح علامات الاستفهام). فما مقالي إلا محاولة للوصول بالموضوع لمرحلة أنضج عن طريق التحليل ولتلتقط أنت الحل.
الغربة وعدم التكيف:

قال أحمد زكي لعبلة كامل في فيلم هيستريا: (شوفي يا وداد، إحنا عايشين في مجتمع ضاغط اللي يتصرف فيه بإنسانية وببساطة وتلقائية بيعتبروه مجنون). نحن بالفعل نعيش في مجتمع ضاغط أو عالم ضاغط، تحكم فيه تقاليد العجزة بالإعدام على العناصر الفعالة التي يعتبرونها شاذة، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
المكتئب في الأغلب كان يحمل أحلامه وتوقعاته على كتفه ولكن الحياة والواقع أشاروا له بالرجوع فدار على عقبيه خائب الرجا، مكسور الخاطر. هذه الفجوة النفسية تتسع كل يوم في ظل الاطلاع السهل على مجتمعات أرقى ووضعها موضع المقارنة مع البيئة المحيطة. تتعمق هوة اليأس مع توسع تلك الفجوة فتمثل كائنا طموحا خُذل أيما خذلان وتحول إلى مريض نفسي. كل يوم يشعر بكدمات غير مرئية في روحه ناتجة عن التصارع مع الحياة.
هذه الغربة أو العجز عن التكيف تمثل نسبة كبيرة من منغصات الاكتئاب، في نفور دائم عما يحيط بك حيث إن الجميع يريدون منك الذوبان وتحقيق النمط المعتاد والإطار الضيق الذي دُفعوا إليه دون رغبة.
يؤدي كل هذا إلى رغبة ملحة في الاتصال أو الاستسلام وقد أوضح إريك فروم هذه النقطة في كتاب (فن الحب). الأمر أشبه بيد المجتمع تحاول خنق الفرد الذي يحاول الإفلات حتى يخلص نفسه ويتصل أو يذوب في كيان معين بإرادته أو يستسلم ويشبههم وهذا يريحهم وهكذا يريدونك ولكني لا أحب أن أعطي الحديث نبرة البارانويا أو جنون العظمة ولكن -للأسف- هم هكذا بالفعل.
ستقابل -إن لم تقابل- أناسا ليس فيهم من القيمة شيء سيحاولون توجيه حياتك وستجد نفسك بكل عفوية تنطق الجملة المعروفة: (كان العلق نفع نفسه). وبالفعل ليس أحد قدوة ليفرض قيودا نفسية أو مادية.
تتجمع هذه العوامل وتجعل الحياة الأخرى أزهى وحتى لو كانت عدما فهي أريح وأرحم، أو أيا كانت ملتك فسترى أن هذا المكان لا يليق بك وستشعر باليد دائما تخنقك.
من الحلول الجزئية التي عرضها إريك فروم، العمل الإنتاجي. بالنسبة لي كتابتي الأولى -عملي الإنتاجي- كانت منقوع كآبة وليلا حالكا مرصعا بكائنات سوداء تسمى الأمل، حتى اقتنعت أن على الكاتب ألا يقدم خطابا سوداويا دون أن يقترن بحل أو على الأقل تعاطف، إذن فلم يكن العمل هو الحل الأمثل.
تطرق فروم بعدها إلى ما سماه (الوحدة المتحققة في الاندماج العربيدي) وهي المخدرات والجنس وما إلى ذلك. وقال إنها وحدة مؤقتة وبالفعل فهي لا تمثل الحل الفعال حيث إنها توسع الفارق بين حيثما تهرب من. وأينما تهرب إلى. فتصبح الصدمة عند الفوقان أشد وقعا إلا في حالة كونك أنيس أفندي بطل رواية (ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ. حينما قال دون أن يرفع عينيه:
-أتساءل: لماذا أحيا؟
-عال، وبماذا تجيب؟
-أنسطل عادة قبل أن أجد الفرصة.
ختم فروم حديثه بالوحدة المتحققة بالأشخاص عن طريق الحب وهي في نظره -وفي نظري- الوحدة الكلية والحل الأمثل ولكن شرحها يطول وسأنتقل للنقطة التالية.
غياب الاقتناع بالاحتمالات:
من أشد أعراض الاكتئاب سوءا هو عدم الاقتناع بالاحتمالات. يمكنك أن تستيقظ ويكون في مقدورك الذهاب إلى ألف مكان يمكن أن تقابل فيهم ألف شخص وألف فرصة واحتمال إلا أنك لم تقتنع بالاستيقاظ من أصله.
في كتاب (آليات الكتابة السردية) لأمبرتو إيكو أوضح طريقته في وضع السير الدرامي لقصته وهو معرفة إمكانيات القصة، بهذه المعرفة يتكون ما يشبه السقف تحته توجد الاحتمالات التي يختار منها أفضلها.
إذن القصة عنده هي تحديد الاحتمالات. أنت لو علمت إمكانياتك وعلمت نفسك دون تصنع وعلمت وجهتك فستنجز ما يؤرقك عدم إنجازه وستكتب قصتك.
التأثير البيولوجي الحلقي:
ربما سُل كافكا الذي أدى إلى وفاته مبكرا كان ناتجا عن نظرته السوداوية للحياة. أغلب الأمراض العضوية تنتج عن سوء الحالة النفسية. حالات كالنورستانيا أو الـ CFS هي تداعي جميع الوظائف الحيوية والشعور بالإنهاك وعدم القدرة على فعل أو انجاز أي شيء والتي بدورها تزيد الحالة النفسية سوءا وهكذا دواليك إلا من فترات موجزة من الشعور بالصحة.
لذا عليك أن تكسر تلك الحلقة وتسبح خارج الدوامة.
اللاجدوى:
من اللمحة السريعة إلى النظرة الممعنة ستخرج بحقيقة أتفق معك فيها ألا وهي أن لا جدوى للحياة. الدنيا زوال يا بني لا تتشبث بشيء. كتب ألبير كامو الفيلسوف الفرنسي الشهير كتابا طويلا عريضا اسماه (أسطورة سيزيف) ليوضح نقطة معينة وهي اللاجدوى وأذهب للانتحار بينما أنا أقف هنا أدعو البقية.
الانتحار ليس الحل، إنما هو الهروب والسهولة ولا يجب بالضرورة أن يدل على الوعي الزائد أو الذكاء الخارق، فإن كان يمتلك إحدى الصفتين لحل معضلاته دون اللجوء إلى العدم رأسا.
الإنسان لا يعرف ماذا يريد ولهذا نحن نجرب كل شيء حتى لا يتبقى إلا الموت لنجربه. الشجاع ليس من يواجه الموت بل من يواجه الحياة.
كلمة أخيرة:
في فيلم (Café Society) لوودي آلان كانت هناك شخصية تقول: (اللا إجابة هي أيضا إجابة). ربما توجد أشياء يجب أن نتقبلها كما هي، لا نلتهي عنها ولكن نتغاضى عن طبيعتها، نتجاوز الحيرة إلى الفعل فالحياة قصيرة جدا.
إذا ضغطنا عمر البشرية إلى عمر شخص واحد فسنجد أن البشرية ما زالت في مراهقتها. وصلت إلى مرحلة البلوغ وما زالت تكتشف نفسها وتتحسسها. هناك حيرة وعدم توافق على المستويات العليا تؤثر على الفرد من كافة الجهات. فربما الجميع مخطئون سواء العدميين أو المؤمنين. نحن في عصر غير متناسق مع نفسه، يسبب تشتتا للإنسان وعدم فهم يترتب عليه أشياء كثيرة. يرسّب فينا الاكتئاب الذي رغم اكتشاف أول مضاد اكتئاب عام 1952 إلا أنه لم يكن الحل بل إن نسب الانتحار تتزايد. هناك يد كبيرة تخنقنا كلنا. علينا أن نؤمن بفرديتنا ونغرد خارج السرب لندرك أنفسنا ونتعايش مع طبيعتنا ونتقبلها. لا يوجد حل وحيد ممكن أن يُطبق على مليارات البشر بل علاجك منك، حيث إن السعادة إن لم تنبع من داخلك ستظل دائما في حاجة إلى مصدر لها.

\"\"

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top