محمود جمال أحمد يكتب: القلب الأخضراني.. دبلت فيه الأغاني

\"\"

(القلب الأخضراني يا بويا. دبلت فيه الأغاني يا عين) ناجى بها عبد الحليم، ملوحا بيديه، محركا معصميه على الإيقاع، على وجهه نظرته العاتبة المحببة.
كانت الجملة من أغنية (أنا كل ما أقول التوبة) للأبنودي، اختطفتها من السياق الذي لا يتوافق مع ما سأعرضه إلى حد كبير فلا أعتقد أن الخال كان يروم حلا لمسألة وجودية أو فلسفية في تلك الأغنية ولكن الجملة تحمل في طياتها معنى بليغ لفقدان الشغف وتثير مكامن الخيبة في النفس وتحاول أحياء تلك الموسيقى الخفية المترددة بين الجنبات التي يخاف عليها محمود درويش من العزف المنفرد، الذي سيحكم عليها بالفناء في بستان القلب (الأخضراني).
فقدان الشغف، العارض الطارئ على الحياة، الخمول والتبلد، معه تصبح الحياة (أكلة نفسك مش جايباك عليها). أنا نفسي أعاني منه. عادة ما أظن أن ليس بي طاقة وأحيانا أظن أن ما أفعله نفسه غير مشجع أو أن هذا الشعور حيال شيء بعينه دون الباقي ولكنه يتسرب لجميع الأفعال الأخرى. أظل أهرب من فعل إلى فعل من مصب للطاقة لمصب آخر وبينهما سور وراء سور دون حل، ويتبدد مع الإخفاقات المتتابعة حتى الرغبة في الحل ثم تهمد الطاقة التي كنت أحاول تصريفها وتنطفئ في مكانها.
سدة النفس. هذا النفور ينبع من صب الاهتمام في عمل معين هربا من واقع آخر غير محبب -ربما الحياة- وبالتدريج وبحكم الطبيعة، نمل منه. وقد انتظرنا منه الحل الناهي ورفعنا سقف توقعاتنا، حتى سقط علينا. ولم يكن هو الحل أصلا وأصبح الأمر انتظارا للسمنة من *** النملة.
كل هذا يؤدي إلى نفور وإحباط وبالتالي فقدان للشغف، انتقل من الحبل الواهي المتعلقين به بالحياة إلى الحياة بذاتها ولا نتدارك الخطأ إنما نعلق آمالنا بعمل آخر ونهرب إليه من المهرب الأول وهكذا دواليك، نهاجر من لذة اللحظات الأولى إلى تشويق عن جهل ثم في الحالتين إلى الملل من جديد وانتظار الكثير من الضئيل. حتى يبهت لون اللوحة رويدا رويدا.
وتتراكم الخيبات كالشحوم فتثقلك ولا تخزي الشيطان وتستعيذ بالله وتتكل عليه متجها إلى عمل آخر بل تعسكر في طرف اللوحة التي أعتمت تماما.
صاغ بليغ حمدي هذا الموقف ونتائجه في مذكراته -ستجدونها في رواية بليغ لطلال فيصل- حيث قال:
\”نزلت. فعلت كل ما يفعله السعداء. ضحكت وأكلت وشربت واستسلمت لفلاش الكاميرا. لو كنت صاحب الأمر لمنحتُ كل الناس ما يتمنونه. المال والموهبة والنجاح والشهرة والمعجبات، حتى يعرفوا أن الحل ليس في كل تلك الأشياء التي يتمنّونها ويحسدوننا عليها. الحل في مكان آخر. ولكني لا أعرف أين هو\”
وأتخيله بدلا من سعيد طرابيك في عبود على الحدود حين يرد عليه علاء ولي الدين: (بس هو ييجي يا فندم وأنا أمسمره هنا). والله يا بليغ إن جاء الحل لأمسمرنّه هنا.
بالعودة إلى ذلك الموقف أو الـ(أتيتيود) والذي نلاحظه الآن في جيم كاري وسوداويته في أحاديثه الصحافية كما فاجأنا به روبين ويليامز. فالحل كما يبدو ليس في شيء بعينه وبالتالي ليست النتائج تحديدا.
وهذا ينقلنا إلى النقطة التالية التي يرأسها سؤال مهم وهو: (هل الحل في نقطة الوصول أم الخطوات التي تسبقه؟) أعتقد أن الانتظار ليس هو الحل الأمثل، ليس في تلك النشوة التي سرعان ما تتبخر، كما أن نقطة الوصول ليست بهذا الوضوح، نشوة الحاضر والاستمتاع بالفعل في حد ذاته هي المراد. إضافة (يفيد بإيه؟) لنهاية كل فعل، يفسده ويفقده مذاقه والاهتمام بالصورة الأكبر مثبط جدا بينما هناك لحظات مكثفة يمكن اقتناصها. العيش على أمل أحيانا يكون أفضل من اغتنام الأمل ذاته.
لا أريد أن أضع الخلاصة وأبدو كمن أحضر الديب من ذيله ولكنني عرضت ما يمكن تقنينه من الأعراض. وكالعادة فسوف تدهشنا الحياة بعشوائيتها وقدرتها على الارتجال وتأتي بأعراض أخرى كآلية دفاعية من البؤس. أو أن بصيرتي قد خانتني في المقام الأول ولكن على كل حال فيلكن الله الموفق والمستعان على قسوة هذا الزمان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top