محمد ممدوح يكتب: سنُقرئك فلا تنسى "دم المماليك"

التاريخ لا ينسى، هو فقط يتوارى في الظلال بسبب رغبة البعض في دفن أجزاء منه بعيدة، لا أدري السبب حقاً، وإن كُنت أعتقد أنهم لا يُريدون لنا أن نعرف وألا نتعلم وألا ننتبه، فلا نُكرر أخطاء سابقة.

سيقولون إن التاريخ يُعيد نفسه، ولكن لا، هو لا يُعيد نفسه، نحنُ من نُعيد نفس التركيبة القديمة بنفس الظروف والمُعطيات، بنفس الأنماط البشرية وأخطائها المُتكررة، بنفس السلوكيات المُتشابهة، لذا يكون المُنتج النهائي لا مُتشابها، بل مُتطابق إلى حد بعيد.

جلست في آلة الزمان المصنوعة على يد أحد أصدقائي، لم يُكن يوماً عالما فيزيائيا شهيرا، أو حاصلا على نُوبل في علوم الفيزياء الكمية، أو حتى من العُلماء الناظرين، هو فقط مؤرخ وباحث نهم في التاريخ.. آلة الزمان التي أهدانا إياها، كانت قليل السعر سهلة الاستعمال، كل ما عليك أن تفعله لتُبحر معه في تلك الفترة الزمنية، هو أن تفتح صفحات الكتاب بالغ الثراء، لترى بعينيك خط الدم المسفوك و هو يسيل بجوارك.. حسناً نحن نتحدث عن كتاب \”دم الممالك\”.

بدأت المقالات المنشورة على الموقع المُتميز زائد 18 تُثير إنتباهي، فأنا من قبل كُنت أعرف بيبرس وقطُز وطومان باي، ولكن لا أعرف الآخرين – إن قلمه يبدو كفارس يُكافح لشق طريقه برشاقة وعُنف ودموية بين صفوف جيش الجهل الظلامي الذي طمس تلك الحُقبة من تاريخ تلك البُقعة التي ندعوها الوطن- بدأت أنتظر وأترقب المقالات.. يا إلهي حقا.. أنا لم أتحل يوماً بفضيلة الصبر، أرسلت رسالة للكاتب عبر موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك: \”هل أستطيع الحصول على ملف به كُل المقالات المنشورة على الموقع؟\”

أجابني: \”صبرا.. فالكتاب في مرحلة الطباعة الآن، وقريباً سيكون بين يديك\”.

ابتسم في صمت، وأقول: سُحقا للانتظار، ولكن لا بأس بقليل منه.

مارست طقوس القراءة المُعتادة، وأنا ألتهم تلك الوجبة الشهية طيبة المذاق، لم أكن مُتسرعا كعادتي، بينما كان الكاتب هكذا.. خليط شيق بين المعلومة التاريخية والنص الأدبي، مع توضيح للمصادر المُستاقة منها المعلومات.. قد يبدو الأمر للبعض أنه حكاية، واعتقد أن هذا ما كان يرمي له الكاتب.. هو يُقص عليك رواية تاريخية، فتستمع بالحكي وتستفيد بالمعلومات التاريخية القيمة، ولكن عُذرا، فهناك أمر آخر، هو أن الكاتب يقودك للتفكير والتأمُل المُتمهل في الأسباب التي قادت إلى كُل تلك الأحداث، ولأن الشيطان يكُمن في التفاصيل، فكذلك المُستفيد يكُمن وراء الستار، يُحرك خيوط المؤامرة كما يُريد، حتى يظهر في النهاية مُعتقدا أن الأمر أستتب له، لتبدأ الماكينة في إصدار النُسخة الجديدة من المُؤمرات.. نعم هي ماكينة إنتاج مؤمرات ودسائس ألمانية الصُنع لا تفسد مع مرور الزمن.

\”هي لمن غلب\”.. هل تستدعي تلك العبارة أي مشاعر وتساؤلات إلى ذهنك؟!

دعها جانباً، وتمعن في ذلك الموقف الذي يحكيه الكاتب حينما عاد بيبرس إلى خيمة السُلطان بعد أن قتل قُطز, فسأله أين السُلطان؟ وكانت الإجابة واضحة، فسأل: من قتله؟ فرد بيبرس قائلا: أنا.. فأنحنى له وقبل يديه، وتم تنصيبه السُلطان التالي, حقاً هي للقوة دائماً.. لا للعدل.

لا ينسى الكاتب أن يُبحر بداخل الشخصية، فيقول لنا توقفوا عن التقديس والتسفيه.. توقفوا عن رفع البعض إلى مصاف الملائكة، ودحر الآخر إلى مراتب الشياطين.. نحنُ بشر نتقلب كما تتقلب قلوبنا بين يدي الرحمن، توقفوا عن النمطية في الأداء، وادركوا أن هُناك ألوانا مُتعددة غير الأبيض والأسود.. هُناك ألوان عديدة متغايرة كما تتغاير نفوس البشر، فكم من عاص أهتدى، وكم من ناسك تجبر وتكبر، وكم من هُم عملوا من أجل شعوبهم، وكم من هُم عملوا من أجل بطونهم وشهواتِهم.

عبارات رشيقة تنتمي إلى مُعسكر السهل المُمتنع، وأسلوب بسيط بعيد كُل البُعد عن التعقيد والدسم.. سهل الفهم والانتقال من زاوية إلى أُخرى، وإن كنُت اتمنى أن يكون النص أكثر تفصيلاً، ولكنه يتعارض مع أسلوب الكتاب الذي يعتنق مبدأ خير الكلام ما قل ودل، أو كيف تصل الفكرة والمعلومة والحكاية إلى عقل القارئ بأقل عدد من الكلمات، ولا أدري هل طغي هذا الأسلوب على تفاصيل الفترة التاريخية بشكل قوي، أم لا؟ وأعتقد أن هُناك من درسوا تلك الفترة، يستطيعون أن يُحددوا ذلك بصورة أفضل، ولكن إجمالا.. الكتاب شيق ومُفيد، والأجمل أنه يُحقق لك مُتعة القراءة وثراء المعلومات التاريخية، ليس هذا فحسب، بل إنه يدفعك بطريقة غير مُباشرة إلى التفكير في الأخطاء وكيف كان يُمكن تجنبها.

أنصح بقراءة هذا الكتاب المُمتع, الأخطاء المطبعية تكاد تكون غير موجودة, اللُغة سليمة واضحة، وتتناسب مع اللُغة العصرية التي يتحدث بها شباب اليوم، خالية من الابتذال أو الإسفاف الذي أصبحنا نراه كثيرا.

الحيادية والموضوعية التاريخية أحد أبرز سمات الكتاب، فلا إنحياز ولا تحزُب لأي من الشخصيات التاريخية.

اتوجه بالشُكر للكاتب وليد فكري، وانتظر المزيد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top