يُقال إنه بينما الحرب والمعارك على أشُدها بين الحُلفاء ودول المحور، وكان هتلر على وشك دخول لندن (قلب الإمبراطورية البريطانية وقتها) كان تشرشل رئيس الوزراء البريطاني في اجتماع مع وزرائه، وسأل عن التعليم، فاشتكوا من أن الحرب دمرت المدارس، وأن الغارات لا تسمح بانتظام الدراسة، فلم يُعقب، وسأل عن الصحة، فاشتكوا من قلة الأدوية والمُعدات الطبية، فلم يُعقب، وحينما سأل عن العدل والقانون قالوا إن كل المحاكم تعمل بصورة طبيعية بقدر المُستطاع، وأنه لا يوجد تأخير في القضايا أو المشاكل القانونية وأن كُل شخص يأخُذ حقه. وقتها قال: إذن فسوف ننتصر.. مادام العدل والقانون بخير، إذاً فسننتصر.
لا أدري ما هي صحة القصة، ولكن لو دخل الألمان وقتها، فإن الإنجليز كانوا سينتصرون ويُخرجوهم أيضاً.
تعددت الراويات والأقاويل، واختلفت وتباينت، فُهناك دائما المذاق الذي يُضيفه الراوي للحقيقة، ولكن الحقيقة المؤكدة، هو أن هُناك جريمة تمت وفي وضح النهار، والغريب أن الأمر كان سيمُر كما مر الكثير غيره، لولا أن تلقفته صحفات السوشيال ميديا (العدو الأول لقوى الظلام).
حقيقة الأمر أن الراوية تحولت إلى صراع جديد من الصراعات التافهة على مواقع التواصل الاجتماعي، وأنها أظهرت أننا كمُجتمع لازال يعيش في تشوه نفسي رهيب يطغى على كُل تصرفاته وسلوكه – حوادث المُشاجرات بين الأقباط والمُسلمين في قُرى الصعيد هي عبارة عن \”قصة فيلم اتهرست ألف مرة\”- إلا انها للأسف كُل مرة تتكرر بنفس السيناريو بنفس الظروف وبنفس الطريقة, الغريب والمُستفز هو أننا نُعالجها بنفس الطريقة أيضا، لذا لم يُكن غريبا أن يكتُب أحدهم تحت صورة مؤتمر سابق للوحدة الوطنية بين شُركاء الوطن \”مؤتمر أستريبتيز الوطنية هيبدأ إمتى\” في حين كتبت إحداهن: \”لما تييجي الحتة بتاعة الشيخ وهو بيحضُن القسيس إبقوا صحوني، عشان بحب اللقطة دي أوي\”.
وبين كُل هذا، هُناك امرأة مُسنة تعرت في مشهد مُماثل حدث على شاشات التليفزيون، يعرفه بكُل تأكيد مُحبي المُسلسل المشهور Game of Thrones ولكننا تغلبنا على أشهر وأقوى الأعمال الدرامية، بأننا صنعنا هذا في الواقع, المُثير في الأمر أن أغلب أصدقائي من الأقباط قاموا بنشر القضية بكُل حماسة، وأفردوا لها الحديث والتحليل، ليس لشيء إلا لأن تلك السيدة مسيحية، ولو كان الأمر معكوسا، لكانوا في المُعسكر الآخر الذي يُدافع عن Walk of Shame التي تمت للسيدة بالطبع!
لن نتحدث عن المُعسكر الآخر، فالأمر أضحى مُبتذلا إلى حد بعيد, ببساطة نحنُ بين مُعسكرين كلاهما يرى أن قتلاه فقط هُم الشُهداء، وأن ضحاياه فُقط هم من يستحقون البُكاء، وأن أعراضهم وأموالهم فقط هي الحرام، وما دون ذلك فليذهب إلى الجحيم.
هل تدرون لماذا تبدو \”العدالة\” في تمثالها الشهير معصوبة العين؟ لأنها لا ترى شكل أو لون أو مُعتقد أو جنس المُتخاصمين، هي فقط تُمسك بالميزان لتحكُم بالعدل، ولكنها هُنا في مصر تمصرت، بل وأصبحت الأكثر إنتقائية في الفترة الأخيرة، وعلى ما أظُن، فإن هذا هو السبب الجذري لأن تتكرر تلك الحوادث بشكل دائم.
فتخيل يا عزيزي أن هُناك من يرتكب جريمة ولا أحد يُعاقبه، ماذا سيكون رد فعله؟! سيبحث عن الجريمة الأكثر جُرماً في المرة القادمة.
الأمر ليس مُعضلا بهذا الشكل, تحقيق شامل – أدلة لا تقبل الشك – قضية أمام قضاء غير مُتحيز غير مُسيس – عقوبة مع إتخاذ إجراءات أكثر صرامة لتكرار مثل هذا الأمر، ولكن هذا لا يحدُث.. دعك منه فهو يحتاج إلى إحترافية أمنية نتمنى جميعاً أن نجدها، وقضاء مُستقل ووعي مُجتمعي عالِ يرفض أي ظلم أو إعتداء لأي طرف، وتلك الأمور صعبة في مصر الآن.
كتب أحد الصحفيين على صفحته عن القصة.. المُهم أن هذا الصحفي يتميز بموضوعية وحيادية أهلته لأن يكون مُراسلا لأهم الصُحف العالمية ذات المصداقية، وبعد كتابة رأيه بدقائق، أخذت أُراقب التعليقات بهدوء، لم أتدخل سوى مرة واحدة برد على تعليق سب لهذا الصحفي، ولم أُتابع الرد بعد ذلك.
حاولت أن أفهم من التعليقات كيف تستطيع أن تصنع وعيا مُجتمعيا أو رأيا عاما ناضجا من هذا الكم الهائل من الغباء وعدم الموضوعية أو المنطقية، بل والطائفية الملعونة والتعصب المقيت؟ وجدت أن الأمر سيحتاج إلى عمل دؤوب لتحقيق مثل تلك المُعجزة، وأشك أنها قد تتحقق.
عزيزي المُنتفض لأي أيدولوجية، أرجوك، بل أتوسل إليك، حاول أن تتفهم أنك إنسان عادي تماماً، وأن الفريق الذي أنت مُنضم له هو مجموعة من البشر، منهم الخلوق ومنهم الصعلوك.. منهم الراقي ومنهم المُنحط.. منهم الشريف ومنهم الحقير.. منهم المُحترم ومنهم السافل.. منهم المُصيب ومنهم المُخطئ، ليس هُناك أي دليل يقيني على أن الفريق الذي أنت به هم أبناء الرب، وخاصة إن كانت مرجعيتك وما تعلمته عن الفريق يؤكد لك ذلك، فهذه ليس مُشكلة الآخرين غير المؤمنين بنقائك وطُهرك أنت وفريقك.. هذه مُشكلتك أنت.
عزيزي.. تلك النوعية من الأسئلة الوجودية والمعارك الصفرية وحروب الإبادة ومبدأ الفائز الوحيد، كُل هذا قد عفا عليه الزمن وأثبت عدم جدواه, فالحقيقة الوحيدة هي أن العدل والقانون هما حجر الأساس لأي أُمة.