هُناك من يقود سيارته بغرض السفر، وهناك من يقود سيارته بغرض الذهاب من وإلى العمل، وزيارة الأهل والأقارب وقضاء المصالح المُختلفة لكافة أنشطة الحياة.. هُناك من يقود السيارة لأنها وظيفته ومصدر رزقه، وهُناك من يقود السيارة بغرض الاستمتاع فهُناك سيارات قيادتها تُمثل مُتعة في حد ذاتها.. الجميع يقود سيارته أو يركب في سيارة أُخرى، وهو لا يضع في باله أن بضعة ثوان قد تكون هي الثواني الفارقة, فأغلب حوادث الطريق لا تحتاج إلا ثوان قليلة كي تتحقق هذه الثوان التي يتشتت فيها إنتباهك أو إنتباه سائق السيارة عما يجب عليه الانتباه له فقط، بل والتركيز بشدة، فما يبدو سهلا ويسيرا للبعض هو في الأصل أحد الأنشطة الأكثر خطورة.
تُشير الإحصائيات الرسمية إلى أرقام مُخيفة بشكل كبير، فهُناك من يتحدث عن أثنى عشر ألف قتيل سنوياً بسبب حوادث الطريق وعن تكلفة على الاقتصاد المصري ما بين تعويضات وتأمينات تتجاوز الأربعة مليار جُنيه سنوياً، لاحظ أن تلك الأحصائيات الرسمية لم تتحدث عن الحوادث التي لم تصل إلى نُقطة الشرطة أصلا، وهي أيضاً رقم تقديري مُخيف قد يُضيف إلى خسائر الاقتصاد أربعة مليارات أُخرى، المُثير في الأمر أن كُل هذه الدماء والأموال كان يُمكن تجنُبها، ولكن إذا تم اتخاذ بعض من الإجراءات الوقائية اللازمة، وتذكر عزيزي القارئ أنه دائما العُنصر البشري يلعب الدور الأهم والأكثر حيوية في أي منظومة وقائية، فالقدر الكافي من التدريب والتثقيف ورفع مستوى الوعي بخطورة حوادث الطريق، هو أمر سيكون له مفعول السحر في التعامُل مع تلك الخسائر المُرعبة.
في إحدى الدراسات المُثيرة للاهتمام عن أسباب تشتيت الإنتباه أثناء القيادة، كان الترتيب مُلفتا للنظر بشكل كبير، إذ أنه تفوق في هذا الترتيب، إرسال الرسائل النصية عبر استخدام الهاتف أثناء القيادة، على تعاطي المُخدرات التي جاءت في المركز الثاني، أو تعاطي الكحوليات و التي جاءت في المركز الثالث، الأمر الذي أدى إلى أن هُناك إتجاها لإنتاج سيارات تقوم بحظر أستعمال الهاتف أثناء القيادة، ولم يصل إلينا بعد أي التقنيات التي سيتم استخدامها لتفعيل مثل هذا الحظر، ولكن فيما يبدو أنه خُطوة جديرة بالاحترام للقضاء على ظاهرة مُنتشرة بين أغلب أفراد المُجتمع، فالجميع يحلو له استخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة سواء بإجراء المُكالمات أو تبادُل الرسائل النصية.
وعودة مرة أُخرى إلى الأرقام في الإحصائيات، وهذه المرة لن تكون من مصر، بل من الولايات المُتحدة الأمريكية، حيثُ حاولوا ترتيب الأسباب المُباشرة لحوادث الطريق بالأرقام، والنسب المئوية في عام 2011 كانت نسبة 23% من حوادث التصادم، السبب المُباشر لها هو استخدام الهاتف المحمول، تلك النسبة تعني أنه أكثر من مليون وثلاثمائة ألف تصادم، خمس ثوان هي أقل وقت تخرُج فيها تماماً من إنتباهك إلى الطريق، كي تُمارس إرسال الرسائل النصية، وأيضاً خمس ثوان هي وقت كاف بشدة لحدوث حادثة مروعة نتيجة عدم الإنتباه.
المعهد القومي للسلامة أقر بأن ما يزيد عن المليون ونصف حادثة سنوياً، يكون السبب المُباشر لها هو إرسال الرسائل النصية أثناء القيادة، وبينما أفاد مركز هارفارد لتحليل المخاطر أن عدد الإصابات الناجمة عن نفس الفِعل تجاوز الثلاثمائة ألف إصابة سنوياً، فيما صرح أحد معاهد حقائق الحوادث المُميتة أن هُناك إحدى عشر حالة وفاة لمُراهقين بسبب إرسال الرسائل النصية أثناء القيادة، والآن يُمكن أن أقول لكم أن إرسال الرسائل النصية قد يُساوي قيادتك السيارة وأنت مُغمض العينين، على الأقل لمُدة خمس ثوان، أو يتساوى مع تناول أربع زُجاجات من البيرة، أو يتجاوز في بعض الأحيان كونك تحت تأثير المُخدرات.
والآن فلنحزم حقائبنا عائدين إلى الشرق الأوسط، وبالتحديد إلى مصر، لنرى أن المثل القائل \”صاحب بالين كذاب\”، هو مثل صادق للغاية، فالعقل البشري العادي لا يستطيع أن يقوم بُمعالجة عمليات حسابية مُتعددة في نفس الوقت، وبدون الدخول في حسابات رياضية مُعقدة، دعني أُخبرك بأن الطيار الحربي الذي يقود مُعدة تكلفت ملايين الدولارت، وتم إنفاق مثلهم على تدريبه وتعليمه والحفاظ على حواسه حادة ومُستعدة لمواجهة الخطر، يحتاج إلى ثلاث ثوان كي يستطيع التعامُل مع الهدف الذي يظهر أمامه، بينما وأنت على سُرعة مائة وعشرين كيلو مترا في الساعة، قد تحتاج إلى أقل من خمس ثوان للتعامل مع أي هدف قد يظهر أمامك فجأة، ولنتفق أن لا تملُك نفس الحواس الحادة، ولا نفس التدريب المُكثف الذي تلقاه هذا الطيار الحربي, يبدو أننا بحاجة إلى مُراجعة سلوكياتنا مرة أُخرى, فمن مُلاحظاتي البسيطة على سلوك السائقين بصفة عامة، أكاد أجزُم أنهم يتبارون في مُخالفة أبسط قواعد السلامة والقيادة الآمنة، الأمر الذي جعلني اتذكر أن هُناك الكثير ممن يعتقدون أن المُجازفة والمُخاطرة هي دليل على التفوق على أقرانه ودليل على قوته ورباطة جأشه.
وبينما يوجد الكثير منا يشتري تلك السيارات المُجهزة بالوسائد الهوائية وأحزمة الأمان والأنواع المُتعددة من الإضافات التي تُساعد على تجنُب الخسائر في الأرواح أثناء حوادث الطريق، إلا أن المُفاجأة أن هُناك الكثير لا يدري كيفية استخدام وسائل الأمن تلك، بل إن هُناك من يقوم بتعطيل عمل الوسائد الهوائية خوفا من أن تنفتح أثناء أي تصادم، فيضطر إلى دفع تكاليف إصلاح وتركيب إضافية للهيكل الداخلي للسيارة، كما لو كانت تلك الوسائد الهوائية المُصممة لحماية حياته أثناء التصادم، ليست ذات فائدة.