محمد محمود يكتب: طيور الظلام.. نبوءتان لم يخطئهما الوحي

النبوءة الأولي:
لا أذكر متى شاهدت فيلم \”طيور الظلام\” للمرة الأولى، أحيانا تكون البدايات خاطفة بالدرجة التي تصل للنسيان، نشأت في بيت أحب عادل إمام كثيرا، امتلأت أرفف مكتبته بشرائط فيديو تسكنها أفلام ومسرحيات الزعيم، عندما رحل الفيديو عن عالمنا، لم يرحل معه الشغف، فوجود عادل إمام على الشاشة أثناء التنقل بين المحطات الفضائية، مازال سببا كافيا جدا للانتباه والمتابعة بشغف.
تربيت على حب الزعيم، بخاصة فيلم \”الهلفوت\”، وفيلم \”المتسول\”، أحببت \”حسنين\”، الفقير الذي لم يطرب لصخب المدينة، صانع التغريبة المتفردة في قسوتها، ترك \”حسنين\” فيّ أثرا لم تمحه السنين، زاد من حبي للزعيم، \”عرفة مشاوير\”، الهلفوت الذي يعمل شيالا مقابل القليل من المال، مقتنصا فرصة الثراء السريع القادمة إليه من عوالم القتل، دخل \”عرفة\” عالما جديدا عليه فلم يألفه، دفع حياته ثمنًا لذلك.. شخصيتان أحببتهما حبا جما، لكن الأمر اختلف كثيرا عندما رأيت \”طيور الظلام\”، مسني \”فتحي نوفل\”، المحامي الريفي الباحث عن سلم المجد، والذي لم يمنعه فقرة من إقتناء مراجع القانون الكثيرة، والضخمة، ولم يمنعني حبه للسلطة وللمال من التوحد معه، نعم فقد أحببت \”نوفل\” لدرجة التوحد!
الطفل الذي كنته حين مشاهدة \”طيور الظلام\” للمرة الأولى، لم يكن يأبه لـ \”وحيد حامد\”، لا يعرف اسمه حتى، ولا ينتبه لـ مشهدية \”شريف عرفة\” الخاطفة رغما عن جذبها له، أدركت هولاء الموهوبين مع بدايات الشباب، عرفت جيدا أن \”فتحي نوفل\” سُلطوي فاسد.
يرصد \”حامد\” في سيناريو الفيلم تناقضات المجتمع المصري، سعي ساسته واستماتتهم علي المناصب، تجاهلهم في ذلك لأمال الشعب المرهق الذي لم يكن له يوما حق تقرير مصيره كما يفترض أن يكون لكل شعب، يرصد كذلك تناقضات النفس البشرية ذاتها.
عندما يكون الواقع ملوثًا، تصبح الصفات القبيحة عرفا، من يخرج عليه، يكون بمثابة حالة تستدعي الدراسة والبحث، والحب، وهو ما جسده \”حامد\” باقتدار في شخصية \”نوفل\”، فالأضواء لم تنس \”نوفل\” أصدقاء الماضي، لم يمسه الغرور الذي تحدثه المناصب عند أهلها، فبرغم بريق منصبه الكبير، الأضواء اللامعه التي تكتنفه في الحزب الحاكم، كل ذلك لم يمنعه من الإتيان بوظيفة لـ \”محسن\”، صديق الماضي، الثائر الحانق على المشهد برمته، المحامي الذي آثر الابتعاد عن القانون، والاشتغال بالحسابات في إحدى شركات الحلوي المغمورة، ليكون عالمه مقتصرا علي العمل والبيت والقهوة التي يجلس عليها ليدخن المعسل، والتي كانت محل لقاءاته الدائمة بـ \”نوفل\” أثناء أحداث الفيلم، ظل \”محسن\” رافضا لكل شيء، حتي للمنصب الذي ألحقه به صديق عمره، مفضلا المعسل على المناصب، لكن ذلك لم يمنع \”نوفل\”، من أن يستخدم نفوده لفصله من عمله ذي الراتب الزهيد، واستبداله إياه بآخر ذي أجر كبير.. دون أن يعرف لماذا فعل ذلك!
حببني \”نوفل\” في المحاماة، مسني شغف عوالمها الساحرة، جعلني أتمني أن التحق بكلية الحقوق، لأكون محاميا يعرف ثغرات القانون وألاعيبه المتاهية كما يعرف اسمه، اقتني مراجع القانون الكبيرة، أسهر لقراءتها، أصدح بمرافعاتي في أروقة المحاكم، يستعين بي كبار المحامين لأخذ رأيي في قضاياهم المهمة.. ظل جزء بداخلي رافضا لدخول \”الحقوق\”، وفي آخر الأمر التحقت بها، ليس حبا فيها، وإنما لخطأ في كتابة رغبات التنسيق، وكأن القدر شاء أن تتحقق نبوءة الماضي، متجاهلا لكل شيء، معصوب العينين كالمرأة رمز العدالة.
النبوءة الثانية:
مع اشتعال جذوه ثورة الخامس والعشرين من يناير، اشتعل بصحبتها الزخم حول \”طيور الظلام\”، فقد تنبأ \”حامد\” بدخول قيادات الحزب الوطني المنحل إلى السجن، وهو ما لم يكن يتصوره أحد حتى يوم الـ 27 من يناير 2011، زاد الصخب مع قيام \”30 يونيو\”، والتحاق قيادات الإخوان بأقرانهم من قيادات الحزب الوطني في السجون، امتلات صفحات مواقع التواصل الاجتماعي بمشاهد الفيلم، وجمله الحوارية، وبخاصة الجملة الأهم:
\”أنا خارج يا فتحي، وأنا خارج قبلك يا علي\”.
علي الزناتي، المحامي الإخواني القادم من عوالم الشيوعية، والذي جسده باقتدار الكبير \”رياض الخولي\”، رفيق درب \”نوفل\”، صديق عمره وملاذه عند الشدائد كما في البدايات، عندما استعان به عادل إمام للمرافعة عن \”سميرة\”، فتاة الليل التي جسدتها ببراعة الفنانة \”يسرا\”، فلم يكن ينقص القاضي غير اللحية كما قال \”نوفل\” لرفيق دربه، ولم تكن اللحية تنقص \”نوفل\” ذاته، لكن النقص هنا بمعنى عدم الحاجة إليها.
عرض \”علي\” على \”فتحي\” أن يلتحق بصحبته بالإخوان، لم يلق هذا العرض قبولا عند فتحي، الذي كان ينتظر الفرصة هو الآخر، لكنه رأى أن هذه الفرصة لا تناسبه، لتدور رحى الأيام، يتبادل الصديقان الخدمات السلطوية، يتوحشان حتى يصيران مثل \”الديابة\”، التي لا يمكنها أن تجتمع في قفص واحد، وإلا قضت على بعضها، افترق الصديقان ليقابلان المهام التي فرضتها حيواتهم الجديدة عليهم، وفي نهاية المطاف جمعهما السجن.
تحققت نبوءة \”فتحي\” وخرج من السجن، كما نرى في واقعنا، فكل قيادات الحزب الوطني البائد تمارس حياتها الطبيعية، وكأنها لم ترتكب أي جرم يستوجب محاسبتها، لم يخرج \”علي\” بعد، ولا توجد دلالات واقعية الآن على خروجه، مثله في ذلك مثل \”الجهاديين\” الذين زارهم في السجن، ليلقي منهم شفرة الحصول على أموال صاحب شركة الصرافة الثري، يقف الإخوان الآن موقف الجهاديين، وتقف قيادات الحزب الوطني موقف الشريك في المشهد.. أعلم أن هذا الكلام متكرر، وأن مواقع التواصل الإجتماعي، وشاشات التليفزيون امتلأت به، لكن ليست هذه النبوءة الذي أقصدها أصلا.
النبوءة الأهم، هي تلك الكرة التي تصارع \”علي\” و\”فتحي\” على ركلها في آخر مشاهد الفيلم، تُركل بضربة مشتركة، فتترك أسوار السجن، وفي إسقاط على المجتمع المصري تصطدم بـ \”زجاج\”، ذلك المجتمع الذي سيحطمه صراع الساسة وتكالبهما على السلطة، وفي الواقع، إنه تحطم بالفعل، لكن بشكل متفرد.. فقد تهشم ذلك الزجاج، لكنه ظل صامدا، لا تترك قطعه الصغيرة أماكنها، كما صورها شريف عرفة، وكما مجتمعنا الآن، زجاج محطم، تستند أجزاؤه الصغيرة المحطمة على بعضها البعض، لتظهر في مظهر القوي، قوة ظاهرية فقط، لا شك أنها عما قريب لن تطيق الاصطفاف إلى جانب بعضها البعض، فتتحطم تماما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top