محمد محمود يكتب: الشغف الذي نفتقده

بنظرة خاطفة إلى كل ما حولنا، تحديدا إلى إيقاع الحياة، ذلك الإيقاع الذي تزداد وتيرته يوما عن يوم، تتعالى صيحات عازفيه لتشكل سيمفونية صاخبة، قادرة على صم آذان كل من أسلم روحه إليها، ولم يحاول أن ينجو بنفسه من هذا الصخب القاتل.. الصخب الذي أفقد الحياة متعتها، أفقدها الشغف.
رمضان.. ذلك الشهر الذي فُرِض فيه الصيام، ليكون اختبارا يطلب منا فيه أن نجاوب فيه عن سؤال الله لكل منا: \”هل تستطيع أن تمتنع عن ملذات الدنيا؟\”، سواء أكانت الإجابة بالنفي أم الإيجاب، لم يعد هذا السؤال من الأهمية بمكان في واقعنا الصاخب، ما يهم هو أين اختفت قدسية هذا الشهر؟ أين ذهب جلال رمضان وروحه الهائمة دوما؟ لماذا فقدنا القدرة على العمل، وعلى أي فعل في هذا الشهر؟ وهل ما أتى بعده يمكن تسميته بالـ \”عيد\”؟ هل ما زلنا قادرين على العمل أصلاَ؟
أصبح رمضان هما يسعى أغلبنا إلى زواله، أو إلى الاستمتاع بدراماته، لا أحد ينتبه إلى الجانب الروحاني من هذا الشهر، فقط مجرد أيام تمر، تمتلأ موائد الطعام فيها بالأصناف المتعددة التي يؤول مصير أغلبها إلى سلة المهملات، إعلانات، مسلسلات، برامج.. ومن ثم ثلاثة أيام، هم عيد الفطر، الذي أصبح \”التحرش\” أهم مظاهره، نعم هناك من يعتبرون التحرش مظهرا للاحتفال، هؤلاء الأطفال الهائمين على وجوههم في الشوارع والطرقات، لاهثين خلف أي أنثي، محاولين لمسها أو إهانتها لفظيا، ومن ثم يشعرون بالرجولة الزائفة، التي تصورها لهم عقولهم الطفولية.. وفي حقيقة الأمر، كل شيء في هذا البلد أصابه الزيف.
أكره الوعظ بمقدار كرهي للكذب، ولم أكتب هذا المقال لأتجمل، أو لأعظ، بل فقط لأسرد ما سيطر على روحي من قلق وحزن، طوال شهر رمضان، ومن ورائه العيد، لم أنجز سوى مقالا واحدا، لم أحاول البحث عن مبرر، فلا يوجد أسهل من التبرير، ولا أسرع منه طريقا للفشل، فقط قررت أن أبتلع المرارة التي تعتمل في حلقي طوال الوقت، محاولا البحث عن حل لما أصابني، من فقدان القدرة على الحب والشغف وإمتلاكها، على الكسل والتبرير واللامبالاة.
في وسط كل هذا الزخم، لا بد من التوقف.
تكمن المأساة، في استمرار هذه الحال، بكل أعراضها، ثقل الأرواح، استنزاف قدراتها على العطاء، استهلاك ما تبقى من طاقتها، سيرها بعيدا عن كل ما عشقت وأدمنت، بعد أن تفقد الأرواح كل ما سبق، لن يتبقى لها شيء تملكه، سنتحول جميعا إلى مجرد دمى، تذهب إلى عملها في الصباح الباكر، وتعود منه ليلا لتأكل وتنام، ثم تصحو مبكرا لتكرر نفس الأفعال، وهكذا دواليك، وهو ما يعني الموت المحقق، فلا معنى للحياة عند تلك اللحظة.
فقد كل ما هو جميل معناه تدريجيا، إلى أن أصبحنا مثل التروس التي تدور في ماكينة كبيرة، لن نحصل على أي شيء من إنتاجها، ولا نعلم ماذا ستنتج أصلا، فقط سنستمر في الدوران، إلى أن تودي تلك الماكينة بحياتنا، هكذا هو حال الإنسان بدون \”الأحلام\”، فلا معنى لحياة بلا حلم، هدف يسعى المرء لتحقيقه، بكل ما أوتي من موهبة وقوة، وفي ظل هذا الصخب، أصبح العمل هما وعبئا، تمتعض الشفاة، وتتقطب الجباه بمجرد ذكره، من قريب أو من بعيد، وعن نفسي، فأحلامي تتعلق جميعا بالكتابة، ولهذا أكتب.. أكتب لأعيش.
العلاقات الإنسانية، بكل أنواعها، تلقى نصيبا هائلا من فقدان الشغف، أصبح السواد الأعظم منا يتعامل مع من يحب بطريقة تشبه تعامل موظف حكومي مع أوراق عمله، أصبح طرفي أي علاقة أقرب إلى وصفهم بـ \”الأعداء\”، ليس بالأحبة أو الأصدقاء، فكل منا صار يشكل ثقلا عظيما على روح الآخر، بدلا من أن نكون ملاذا لبعضنا البعض، تستمر علاقاتنا في هذا البؤس والتفكك إلى أن تنتهي تماما، بالدرجة التي تخبر بكرة صحبة من نحب خصوصا، والأشخاص عموما، ومن منا يكره الحياة بصحبة من يحب؟! سؤال غير منطقي، يلقي نصيبه من الوجاهة والمنطق عندما يزول الشغف تجاه الحياة، وتزول برفقته القدرة على عطاء الحبيب وإسعاده، وهو مصير نسعى جميعا إلى عدم الركون إليه، ولا ملاذ منه سوى \”الشغف\”.
تتعدد تجليات الشغف، لكن يبقى كما هو، أصيلا.. قادرا على منحنا القدرة على العطاء ذاتها، والتي عندما نفقدها، لا نستطيع أن نحب، لكننا نستطيع الهجر، والفراق، والهزل، والبكاء.
الشغف.. يجلس بعيدا عنا، مترقبا لأفعالنا، لا سبيل للوصول إليه إلا بالاقتراب منه، بالسعي إليه، بل وبإدمانه، هنا يكون الإدمان مُستحبا، يسكن الشغف جنبات صوت أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، تلك التفاريد التي تجعلك تنتبه إلى كل نغمة وتنهيدة، يسكن أرجاء مشاهد يوسف شاهين، وبين صفحات نجيب محفوظ، حيث الشغف كما أنزل من السماء، تجده مقتربا إليك في روايات رضوى عاشور، مصاحبا لك في مقهى قديم لم يعرف الصخب طريقا إليه، متسللا إليك من قصائد مصطفى إبراهيم، ضاربا وجهك بكل قوة في شتاء الإسكندرية، مُصِرا على الاقتراب منك بصحبة تجليات محمد عمران وياسين التهامي، مدللا لروحك بين الأبنية القديمة، عازفا على أوتارها بصحبة فنجان قهوة عبقة الرائحة، للشغف تجليات لا تعد ولا تحصى، فقط ابحث عنها بصدق، وأترك ما سواها.
الشغف، منحة الله العظيمة للإنسان، وحده القادر على جعلنا نستمتع بكل ما نفعل، مهما كان قميئا، لأننا ندرك أن هناك ما يستحق أن نحيا ونعمل من أجله، يوجد ما يجعلنا قادرين على الاستمرار في الحياة، والنظر إلى ما حولنا بعين انتقائية ترى الجميل، كما ترى القبيح، وتضع كل منهما في المكان الذي ينبغي له، فنستطيع حين إذ أن نستكمل الحياة، فتكون حياة روحها الشغف؛ وزادها الحب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top