محمد محمود يكتب: أحمد عبد الرحمن.. لأن الفرحة منقوصة

شاب عشريني، تنطق هيتئه بالبساطة، وجه أسود مستدير، تعلوه نظارة طبية، الملابس هي الأخرى سوداء، دفعه فقر الجنوب إلى غياهب القاهرة، بحثًا عن أي عمل يوفر أبسط قواعد الحياة، حتى دفعه المصير إلى \”حراسة الأمن\” في إحدى الشركات، قادما من أسوان، عابرا أمام مجلس الشورى القاهري، في زمن تحسب السلطات فيه \”النخوة\” جريمة لا تسقط بالتقادم، ولا بالعفو، ولا يشفع فيها كون صاحبها معارضا لها أو مؤيدا، أو حتى تربطه أدنى علاقة بالسياسية.

أثناء مرور \”أحمد عبدالرحمن\”، أمام مجلس الشورى، فوجيء ببضع أشخاص، بهيئة عادية وملابس مدنية، يعتدون على فتاتين في وسط الشارع، وكأي رجل، صرخت عليه نخوته، قرر أن يتدخل لينقذ الفتاتين من المعتدين، باعتبارهم متحرشين من هؤلاء الذين نصادفهم كل يوم، ولأننا في مصر، حيث الظلم هو القاعدة، والعدل هو الاستثناء، اتضح أن هؤلاء الأشخاص أفراد شرطة، من القائمين بالفض والقبض على متظاهري الشورى، فيقبض عليه ويساق إلى جوار المتظاهرين الحقيقيين، فيزاملهم في قضية لا سكين له فيها ولا صوت.

جرت الإهانات والتحقيقات والتفتيشات، وبتفتيش شنطة أحمد عبد الرحمن البسيطة كصاحبها، عثر بداخلها على سكين صغير يستخدمه أحمد لأغراض الطعام أثناء عملة الشاق، كأن يقشر برتقاله أو يشق رغيفا من \”الفينو\”، لكن النيابة كان لها رأيا آخر، فتم تحريز هذا السكين، وتوجيه تهمة حيازة سلاح أبيض إلى صاحبه، إضافة بالطبع إلى ترسانة التهم التي ألحقت بالمقبوض عليهم جميعا، من تظاهر وتجمهر وقطع طريق وبلطجة واستعراض للقوة واعتداء على رجال الشرطة وسرقة أحد أجهزتهم اللاسلكيه بالإكراه.

تداولت القضية بين جدران معهد أمناء الشرطة بطرة، من هيئة حكمت غيابيا بالسجن 15 عاما لكل المتهمين، ثم إعادة إجراءات المحاكمة أمامها، فتنحيها، فتحديد دائرة أخرى بأقصى بسرعة ممكنة، فثلاث أعوام من السجن لكل المتهمين، ما عدا أحمد عبدالرحمن وعلاء عبدالفتاح، رأت المحكمة أن عقابهم يستوجب خمس سنوات كاملة من السجن.

لتجري الأيام، وتلقي لنا بما جعل القلوب ترفرف فرحة متلألئة، عفو رئاسي عن مائة من المعتقلين، ما بين قضية الشورى وقضية الاتحادية وقضايا أخرى، لتُكتب قائمة المعفو عنهم، فتزيد الأيام قهرا على قهرها، وظلاما على ظلامها، فأحمد عبدالرحمن لم يشمله العفو، مازال قابعا في زنزاته البغيضة في سجن طرة.

ما ذنب أحمد عبدالرحمن حتى يلقى به في غياهب السجن؟ لماذا النخوة أصبحت تهمة؟ هل نعيش في غابة، إن تقدمت فيها كرجل للدفاع عن إحدى الفتيات أقضي جزاء ذلك أجمل سنوات عمري بين جدران السجن؟ هل أرادت السلطة أن ترسل رسالة إلى الجميع بأن من سيحاول الخروج من النفق الذي حفره لنفسه داخل \”الحيط\”، سيلقى جزاء عسيرا لذلك؟

نحن المنشغلون بالعمل العام ندرك جيدا نتيجة أفعالنا، وربما عواقبها الوخيمة، نستعد لدفع الثمن في أي لحظة، أو على الأقل نتوقع ذلك، فهذه معركة قررنا خوضها بإرداتنا وبكامل وعينا، أما أحمد عبد الرحمن فلا يدرك ذلك، ليس مستعدا لدفع الثمن، ولا يوجد ما اقترفه لكي يحاسب عليه، ولا يستحق أن يحاسب على فاتورة غيره، ولا يوجد لديه ما يدفعه من الأصل، كل ما يملكه النخوة، تلك التي دفعته إلى نصرة فتاتين تتعرضان لانتهاك بشع على أعين المارة في شارع رئيسي من شوارع القاهرة.

من كثرة التجارب، أشعر بأن الفساد أصبح مكونا أساسيا من مكونات كل شيء في هذا البلد، بدءً من السرقة والنهب وتعبئة الحسابات البنكية، وصولا إلى الفرحة ذاتها، الفرحة مثلها كمثل كل شيء في هذا البلد.. فاسدة.

لا أحسب الفساد شيئا جديدا على واقعنا، بل هو قديم قدم هذه الدولة العجوز، الجديد هو \”القهر غير المتحمل\”، نعم وصل القهر إلى مراحل غير محتملة، شاب لا علاقة له بالسياسة، ربما يكون مرتبه الزهيد الذي دفعة للاغتراب عن بلدته هو مصدر الدخل الوحيد لعائلته، يلقى به في قضية سياسية، يخرج زملاؤه المنشغلين بالسياسة، ويبقى هو وحيدا في زنزانته.. كل قواعد المنطق، بل كل بديهيات الحياة، سقطت صريعة تبكي كالأمهات الثكلى فوق تراب هذا البلد، الذي لا يشبع من دم ابنائه.

الكلمات تتلعثم يا أحمد، لا أعرف ماذا أقول، مآساتك كبيرة على فعل الكتابة ذاته، الحزن على مصيرك المجهول لم أعرف حزنا يماثله، كل كلمات الصبر والأمل تقف عاجزة في موقفك هذا، ابتلاؤك شديد لدرجة يعجز عقلي عن تصورها كاملة.. ربما يكون هذا الابتلاء عصيا على التجاهل على كل من يقرأ هذه الكلمات، اتمنى ذلك، وادعو الله بقلب منكسر أن يفك أسرك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top