محمد علام يكتب: صندوق النقد الدولى.. جمعية خيرية!

بعد الحرب العالمية الأولى والثانية وبعد أن أنهكت تكاليف الحرب بريطانيا العظمى وانتفضت مستعمراتها وطالبت بالاستقلال والحكم الذاتى، وبعد التضخم المالى الكبير الذي تخلل الحربين وتراجع اقتصاد غالبية دول العالم بنحو ٦٠ ٪‏ وندرة ملحوظة لمعدن الذهب، تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية، والذي لم يتأثر اقتصادها، بل بالعكس أصبحت أكبر دائن على المستوى الدولى ولديها فائض فى الانتاج، فهى تنتج نصف الإنتاج الصناعى العالمى ولديها ثلثي رصيد الذهب والذى كان غطاء للنقد منذ عام ١٨٧٠ مما يعطى الدولار قوة يستطيع بها أن ينحى الجنيه الأسترلينى جانبا، ذلك الذى كان المتربع على العرش -وقتذاك- ويصبح هو العملة الأولى عالميا، بل الوحيدة المتداولة، حيث كانت تحدد أسعار عملات دول العالم بالمقابل لسعره، حيث ثبات سعره بالنسبة للغطاء الذهبي هو النظام المتبع فى تحديد العمل (٣٥ دولار للأوقية) آنذاك.
لذلك دأبت أمريكا على التفكير فى إنشاء نظام مالى ونقدى جديد تكون هى المسيطرة عليه، ويكون الدولار هو العملة المتعامل بها حتى تستطيع غزو العالم ولكن ليس بالقوة العسكرية، وإنما بنوع آخر أقوى وأسهل، وهو تمويل الدول المتعثرة لسد العجز في ميزان مدفوعاتها وتمويل الدول التى خرجت من الحرب خربة لتقوم بإصلاح بنيتها التحتية والفوقية وسد حاجة شعبها، وبإدانتها تستطيع التحكم فى سياستها وتملى على حكومتها ما تريده من سياسات، فأنشأت صندوق النقد الدولى ودعت إلى اكتتاب عام لدول العالم، وكان التصويت ليس بالديمقراطية ولكن حسب نصيب أسهم كل دولة فى التمويل، وبديهى أن تكون الولايات المتحدة هى المسيطرة على قرارات الصندوق بصفتها أكبر ممول، حيث بدأ الصندوق بتمويل دولى (٨، ٨ مليار دولار أمريكى للولايات المتحدة إسهامات بـ٢.٩ مليار دولار أمريكى)، وهو ضعف إسهامات بريطانيا.

وبدأ الصندوق في العمل ١٩٤٦ بعد تصديق ٢٩ دولة عام ١٩٤٥ على الاتفاقية.

ومن شروط العضوية أن يطلع الصندوق على الموقف المالى لدى كل الدول الأعضاء التى سوف تدخل فى الاتفاقية فى المستقبل، وبهذا تكون الولايات المتحدة صاحبة نصيب الأسد، ولها حق الفيتو (الاعتراض) أو قبول القرارات الخاصة بالقروض وفترات السداد ومعدلات الفوائد وكل ما يخص اتخاذ القرار.

لكن المقصد فى حديثنا هنا أن ندرك السبب الأساسي لإنشاء الصندوق الذي -وبخلاف الحقيقة- تكلفت الإدارة الأمريكية جهدًا، وأنفقت أموالًا ضخمة في الترويج لشعارات من قبيل التجارة الحرة والقضاء على آليات الحماية التجارية وإشاعتها لإقناع الرأي العام الأمريكي، حيث إنها تدرك أن أعمال الصندوق تخالف روح الدستور الأمريكى.

وهذا يتضح من مبدأ المشروطية الذى اتبعه الصندوق ويتمثل فى \”الموافقة على التمويل المطلوب تتوقف على تنفيذ شروط معينة، تجاوزت فترات السداد ومعدلات الفوائد، وهي إلزام حكومة الدولة المستلفة بإصدار (خطاب نوايا) تعرب فيه عن التزامها بإصلاحات مشكلاتها الاقتصادية، والعمل على زيادة استثماراتها، وتوفير ما يستوجب الاستقرار المالى والنقدى وزياده النمو الاقتصادى، وبهذا يعطى انطباعا للمراقبين الخارجين أن الدولة المتعثرة هى التى أقدمت على هذه الاصلاحات فى خطابها، ولا دخل للصندوق فى ذلك، وبالطبع تتطلب الإصلاحات المتعهد بها تسريح آلاف العمال، وتحرير سعر الصرف مما يؤدى إلى مزيد من التضخم وغلاء الأسعار وتفاوت هائل بين الفقراء والأغنياء، علاوة على ذلك يصرف الصندوق القرض على مراحل حتى تظل الدولة المتعثرة تحت إرادته وسطوته لا تخرج عن طاعته.

كما يصر الصندوق على أن يظل الاتفاق المبرم مع الدولة المتعثرة خارج نطاق الاتفاقيات الدولية التى تتطلب تصديق البرلمان، وبذلك لا يكون محط نظر الرأي العام ويكون محاطا بالكتمان.

وبتطبيق مبدأ المشروطية ومدى التزام الدولة بمعاييره، يصدر الصندوق (شهادة حسن السلوك) وبهذه الشهادة تستطيع الدولة المتعثرة الاقتراض من البنك الدولى والمؤسسات التجارية الأخرى التى تشترط الحصول على تلك الشهادة. وفى عام ١٩٥٦بدأ ممثلو الصندوق يجتمعون مع الدولة المتعثرة فى سداد القرض (الأرجنتين) فى باريس، وتكررت الاجتماعات وأصبحت بصفة دائمة شهرية لاتخاذ القرارات والتفاوض بين ممثلى الصندوق وأطراف الدائنين والدولة المتعثرة وأصبح يطلق على المجتمعين (نادى باريس) والدول الأعضاء الدائمين بالنادى يتألفون من ١٩دوله.

عام ٢٠١٤ دخلت إسرائيل النادى وأصبحت الدولة العشرين، وترددت أنباء أن إسرائيل اشترت مديونية مصر من الدول الدائنة لتستخدمه كوسيلة ضغط وإملاء إرادتها على مصر.

ولكل ما سبق، لابد أن ندرك ونعلم ونفهم أن الاستعمار ليس بالقوة العسكرية والصواريخ النووية والبالستية والكيماوية فقط، بل بالتحكم فى إرادت الدول وقرارتها وإملاء ما يجب عليها أن تفعله سواء بدعم قرارت فى الأمم المتحدة أو التصديق على الاتفاقيات الدولية أو ما يصب من قريب أو بعيد فى مصلحة الدول الدائنة.

نحن أمة لا تأكل مما تزرع ولا تلبس مما تصنع.. إذًا نحن لا نملك إرادة أو قرارا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top