محمد عبد العزيز يكتب: تحسين شروط الظلم

القانون الجنائي يعطي صلاحيات واسعة للقاضي الجنائي في إصدار الأحكام، ومفهوم السلطة التقديرية للقاضي الجنائي –بالأساس- تعتمد على الانتصار للمظلوم -حتى لو كانت مظاهر التلفيق والأدلة الملفقة مصطنعة بشكل جيد- وتعريف السلطة التقديرية للقاضي هي أنه من الممكن أن يغفل أي دليل -طالما غير مقتنع به- وأتى مفهوم السلطة التقديرية للقاضي الجنائي ليتغلب على كل أدلة الظلم وتبرئة مظلوم اجتمعت ضده سلطات القبض والتحقيق والحبس الاحتياطي، وفي معظم الأحيان قبل الدخول في تفاصيل أي قضية جنائية يكون سؤال المحامى عن الدائرة أو القاضي الذي سينظر القضية، والسؤال هنا عن اتجاهه وميله للإدانة عن البراءة وموقفه من قضايا معينة، وتحديدا القضايا السياسية، وهل يتسع صدره لطلبات الدفاع، وهل يضيق بسماع المرافعات؟

والسؤال عن القاضي، لأنك تتعامل مع قاض جزء من تكوين عقيدته في أي قضية \”إحساسه\”، وفي أحيان كثيرة موقفه السياسي، ودون أبداء أسباب لوجدانه، فيكفي القول في حيثيات الحكم: \”أطمئنت المحكمة أو لم تطمئن المحكمة\”.

هذا جزء من واقع افترض فيه المشرع إستقلالية القاضي عن أي موقف سياسي، لكن.. هل أتت السلطة التقديرية بأي نتائج إيجابية؟ الحقيقة أن بعض القضاة تحدوا السلطة وتلفيقها، وانتصروا للضحايا على مر التاريخ -وهناك إستثناءات مشرفة- ووضعوا مبادئ قضائية مهمة، ومن هنا.. فلا يمكن أن أطالب المشرع بإلغاء السلطة التقديرية، لأن الغائها قد يضعنا في موقف أدلة ثبوت محددة، وعدم إعمال قاعدة الشك يفسر لصالح المتهم، ولذلك قد نجد أن القاضي مقيد بما جاءت به تحريات الشرطة -على سبيل المثال- وتكون الإدانة هي عنوان حقيقة مزيفة هنا، لأن دوره تشابه مع دور القاضي المدنى في التقيد بأدلة الثبوت.

القضاء الجنائي رحلة للبحث عن الحقيقة.. رحلة يقين القاضي من إدانة المتهم، والحقيقة أنه في بداية عملي بالمحاماة، كنت متفائلا ببعض الوقائع القضائية وأحكام المحكمة الدستورية في الحقوق والحريات، ولعل الحكم التاريخي في قضية اضراب عمال السكة الحديد ببراءتهم استنادا إلى اتفاقية دولية لحقوق الإنسان واحكام أخرى، دافع لأن يكون هناك أمل في قضاء مستقل بغض النظر عن قوانين استبداية وغير دستورية، لكن من بعد ثورة 25 يناير –تحديدا- تأثر القضاة، وتبددت فكرة استقلال القضاة، وبات استخدام السلطة التقديرية بابا واسعا للإدانة والبراءة حسب الموقف السياسي، وتعمق ذلك بمرور الوقت، حتى إن فكرة المحاكمة المنصفة، أصبحت من الأدبيات أمام كم من الإنتهاكات المستمرة دون توقف، تجعل الأساس الدستوري والقانوني لأي محاكمة مجرد تفاصيل أمام وجدان القاضي، وحسب موقفه السياسي، جعلتنى شخصيا عندما يستشيرني صديق في أي قضية، أجيب إجابتين: الأولى.. هي الإجابة الدستورية والقانونية والمنطقية، والإجابة الثانية.. هي أنه يحتفظ بالإجابة الأولى من باب \”اعرف حقك\”، وأسرد له تطور مهارات تلفيق ترزية القضايا وكيفية التحسب لها ومواجهتها واقعيا.

في أحيان كثيرة، كنت اتعجب وأغضب من استخدام بعض الزملاء المحامين للغة ذليلة في المرافعة أمام القاضي، وصوت المحامى المترافع يشبه صوت \”الوشوشة\” والالتماس والعطف.. تلك اللغة المخالفة للصورة الذهنية للمحامي المترافع بنبرة صوت -كما وصفتها محكمة النقض كما يجب أن تكون- بأن يقرع أذن المحكمة بدفوعه وطلباته، ولعل استخدام اللغة الذليلة هي نتيجة أن الزميل يعلم أن بعض القضاة يمكن أن يتسبب صوته في الأذى المعنوي ويؤثر في وجدانه ومصير قضيته!

وهذه حقيقة –للأسف- ورغم أننى ضد تلك الطريقة، لكن على الوجه الآخر، أنا ضد طريقة استعراض أي زميل محامي لأي مرافعة في أداء سياسي فج وغير مهنى، يدفع ثمنه المتهمون سنوات من عمرهم داخل جدران السجون ومازلت أعتقد أن الآداء المهني غير المصطنع، هو الحل حفاظا على كرامة المحامي وحق المتهم، دون تقصير أو إختزال أو إبتذال.

هذا الواقع المخيف والذي قد ينتهي عند محكمة النقض بالغائه، قد يستنزف سنوات من عمر المظلوم في جدران الصمت والتعذيب، ولا نملك في ظل هذا كله سوى تطوير مهارتنا في بعض الأحيان، واستراتيجيات جديدة، وكما قال الأستاذ أحمد سيف ذات مرة: قد نجد أنفسنا أمام واقع نلعب فيه دورا في \”تحسين شروط الظلم\”.

في النهاية.. لا نملك رفاهية اختيار من يحكمنا ويحاكمنا، لذلك يظل العمل الجماعي المحترم، وانكار الذات، هو أكبر معين في مواجهة أي صعاب. ولا يوجد نجاح بدونه، وهو أساس أي معارك -ولو صغيرة- في ظل ظروف لم تشهدها مصر على مستوى القوانين والقائمين على تنفيذها.

قد تبدو بعض المعارك صغيرة، لكن في سياق ظروفها الصعبة، هي بداية انتصارات كبيرة وأمثلة كثيرة، مثل الأمل في المعافرة في براءة مظلوم.. أمل في إخلاء السبيل.. أمل في شروط احتجاز آدمية بدون إهانة أو تعذيب.. أمل في لقاء الأهالي بذويهم.. أمل في تضامن واسع مع أي ضحية.. أمل في تطوير مهارتنا المهنية.

مازالت المحاماة بالنسبة لي -مع كل الأوضاع المقلوبة- هي طاقة الأمل، ليس فقط في اكتشاف نقاط الضوء بطاقتها الإيجابية  في مساعدة مظلوم، إضافة لذلك اكتشاف محامين بكر، لديهم تواضع وتمرد حقيقي في كل مكان في مصر، وتجربة مركز الحقانية جديرة باكتشاف نماذج من هؤلاء.

المعارك متواصلة، ولو كانت بشكل مؤقت لتحسين شروط الظلم دون التنازل عن هدم كل قواعده، على مدى معارك طويلة ومتراكمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top