(١)
كل ما كنت أريده هو حد مقبول من الضمان، نذر قليل يمكنني الاستناد إليه وقت الحاجة، شيء يمكنني أن أطمئن إليه إذا اضطررت للمجازفة، ثمة عبارات مثل لا أحد ينام بلا عشاء، أو لا أحد يموت جوعا، هذا بالضبط ما كنت أقصده، وأقسم لك إن هذا القدر كان كافيا ليجعلني أطلب يدها في ذلك الوقت، لكن ما حدث غير ذلك.
كان اكتشافي للأوضاع حديثا وساذجا في آن، والحياة كانت قد أصابها العطن منذ زمن، لذا كان الأثر من هول ما تكشف لي بالغا ومن الوهلة الأولى، بدأت أشعر أن شيئا ما ينسل مني دون أن أعرف حقيقته بالضبط، لذلك كنت محظوظا إذ لم أرتبط حتى الآن ولا فرق إن كان ارتباطي بها أو بغيرها، اذ العبرة بأنني نجوت من شهوة إعادة إنتاجي مرة أخرى، أو على أقل تقدير منحت غيري، أو -لأكون أكثر تحديدا- منحت المرأة التي أحبها فرصة أكبر في مواجهة عمرها بدوني، كنت جرحا متقيحا وكان من الرحمة ألا تراني، ومن العدل أيضا أن نواجه أفكار ما أسميه مافيات إعادة التدوير.. إعادة تدوير كل شيء بما في ذلك هذه الجروح المتقيحة نفسها، وصبغها بصبغات مصلحية تحت أي اسم كان. هذا التشوه في الأحشاء يفوق قدرة الطبيعة نفسها على التحمل، أقول لك لم أكن مخطئا.
عندما قررت الابتعاد، كانت المقدمات منطقية والهدف نبيلا، وهو الإبقاء على أكبر قدر من الطبيعية في المرأة التي أحبها، أما بالنسبة للمستقبل فليس من المنطق أن تسألني عن المستقبل بعد كل ما ذكرت.
(٢)
سيارتان من الشرطة كانتا تحتلان جانب الطريق، وكانت هناك عجوز وبرفقتها طفل – يحذو حذوها أو يتقدمها أحيانا – يعبران في تؤدة، حين دهستها دراجة بخارية حولتهما إلى ما يشبه الأشلاء، انقلب من فوقها شاب ذو عضلات مفتولة، وانقلب الشارع رأسا على عقب وحدثت مشادة بين أفراد الشرطة وذلك الشاب ذو العضلات وهم يقتادونه، ورجلان من المارة قاما بحمل الأم العجوز وتنحيتها جانبا، ثم قاما بتغطية الطفل بقميص -ألقي من نافذة ما- دون أن يحركاه من مكانه.
كان هناك صخب وعدد لا بأس به من المارة يقترب ويشاهد ويسأل ثم يذهب ليأتي غيره، إلى أن وصل شاب في مثل سني تقريبا، تقدم نحو المرأة العجوز أولا، ثم ألقى بنظره على الغلام المسجى تحت القميص الذي تحول إلى بقعة من الدماء، وقف على رأسه قليلا ثم ظل يصرخ في اللاشيء، وهو يقول سبع مرات.. سبع مرات لماااااذا، لمااااااااذا؟!
(٣)
ككل الصحف الموزعة صفحاتها بين متابعة أخبار السيد الرئيس والسادة الوزراء والنواب والـ…، وبين التحديث المتكرر لأعداد القتلى وأماكن الانفجار والأشلاء، لاحظت فيما كنت أظنه على الهامش تماما في صفحة ما: (بطلقة واحدة.. طفل في الرابعة من عمره يردي أباه قتيلا).
(٤)
ربما في مساحة هي الأكثر كآبة على الإطلاق، وربما داخل قاعة يملؤها الصخب، لا يهم.. الوقائع بهذه الفداحة تصم الأذن في الحالين.. في بؤر الحرب الوعرة، حيث المنازل المهدمة والمهددة بالانسحاق الكلي ووشيكة الإنهيار، وحيث لا مؤن كافية لا كهرباء، لا مياه، لا شيء الا التراب المتطاير وأزيز الرصاص، وعمر يتم حسابه بأعداد القذائف.. هاون وأباتشي وغيرها من الأسماء التي تنازع الله سلطته في الأرض والموت.
في هذه الأرض نفسها، حيث لا شيء أهون من الحياة، لا يقدم الناس على الانتحار ويفضلون الموت جوعا.
لا تهم إذن مباشرة المقدمات، ما دام اتصالها بالنهاية غير لازم، وما دامت النهاية وحدها التي تقرر لمن ستمنح سطوة اللحظة الأخيرة.. لقذيفة أو لطفل.
سأقول لك الآن إنني جربت الانتحار في سبع مرات، ولم أوفق.. لملمت ما تبقى لدي من أشلاء وجربت الحياة مرة واحدة.. مرة واحدة فقط، وهذا ما حدث.
(٥)
من السهل اقتفاء أثر ذلك كله بتدبيج الكلمات عن القدر الذي يدوسنا بغلافه القاسي، فيصقلنا ضدنا، لنصبح انعكاسا لصورة مهشمة الأجزاء، وتصبح حياتنا برمتها انعكاسا لنا.. انعكاس للانعكاس، ويصبح الوجود كله منطقيا في لا منطقيته.
وسط هذا الزحام من الأشياء في حقيقتها وما آلت إليه، ووسط القطيع الذي لاشك أنتمي إليه، كان من الطبيعي أن أعيد رؤيتي للأمور ببصيرة أخرى تنتمي إلى معايير مستمدة من ضرورة الحياة لا أكثر، ولا أعول على حد أدنى من الكفاف، بل على كم هائل من اللاءات.. لا منطقي ولا طبيعي ولا يصح ولا يمكن، وهذا الكم من اللاءات المتراصة بعضها إلى بعض، هو ما صاغ تلك الصورة النهائية التي نحن عليها الآن.. أنا وأنت وهي، وحولنا جميعا إلى هذا الحشد الهائل من المسلمات غير المسلم بها.