(1)
الأمر سيان، كنت من العاملين بالمول مثلي أو من ضيوفه، ما دامت بوابة دخولك تعني رقم 17 فلا شكّ أنك ستراه، حتمًا ستراه، البوابة نفسها تعرف باسم بوابة الكلب، بوابة زجاجية تعمل بالكهرباء أوتوماتيكيًا، مزودة بمجسات ليزر تفتح قبل أن تصلها، لا شكّ أنّك تعرفها، فهي منتشرة بالمولات والهايبر ماركت والبنوك.. إلخ.
غير أن البوابة 17 وحدها تتميز بهذا الذي يربض على يمينها غافي العينين وليس بنائمٍ، على يمينه يقف شاب أسمر اللون، نحيل، بزيّ الجندي المعتاد، يحدّق بالمارة ويتتبع أرداف النساء، في يده هاتف محمول تنبعث منه موسيقى شعبية تناسبه تمامًا، بينما اليد الأخرى مربوطة حرفيَا بطوق الكلب، يقضي الكلب ذو السمة البوليسية يومه مغلقًا عينيه فيما تدور أذناه كرادار، يرصد أدق الحركات من حوله وتحليلها تحسبًا لأي هجوم، بينما يقضي الواقف إلى جواره يوم خدمته مربوطًا بالطوق تحسبًا لقضاء حاجته – حاجة الكلب أقصد – وتتبع الأرداف والصدور.
(2)
عائدًا من المحكمة، كنتُ، عندما تمّ اقتيادي إلى مبنى الأمن الوطني لأخرج بعدها بأربعة أيامٍ بسبب \”تشابه في الزيّ الذي كنتُ أرتديه\”، هذا ما قاله لي السيد وكيل النائب العام حرفيَا! لم يعرف المحققون ولا المخبرون أو السيد وكيل النائب العام أن أمي الثرثارة كباقي الأمهات هي السبب، فالحق أن أمي تكثر من الحديث عني كمحامٍ، على الرغم من أني لا أملك من أبجديات المهنة إلا \” الكارنيه\” الذي لم أجدده منذ استخرجته، تتحجج أمي متذرعةً: \”اقول محامي أحسن ما قول فاشل مالقيش شغل\”.
أمي التي أسرفت في الحديث مع جارتنا التي اختفى ابنها من مدة، ثم ظهر فجأة بمبنى الأمن الوطني بتهمٍ خارج نطاق الزمن، ناهيك عن المداولات والسجالات التي دارت بين أمي وبين الجارة كي تقنعها بضرورة اختيار محامٍ كبير – عقر – ليكون إلى جانب ابنها، وهو ما فتح به الله على عقل أمي كي تخرجني ونفسها من الموقف، ولتصرف نظر جارتنا المستنجدة بالمحامي الفاشل الذي هو أنا، لكن ولحظي التعس، كان لزامًا على أمي أن \”تجوّد\”، فطمأنتها أنه مع بزوغ الشمس، سأكون أنا \”المحروس\” في انتظاره أمام المحكمة كي أزودهم بالأخبار، معلقةً: \”ده كلام؟ إحنا أهل\”.
(3)
في المرة الأولى التي رأيته فيها – حرًا – من الطوق، كان هو الإمام، كان مرتبكًا جدًا، ونحن نقدّمه ليؤمنا أول الأمر، وقراءته في الصلاة كانت تشي بشيء من ذلك، فليس الطبيعي أن يتلعثم أحدنا في فاتحة الكتاب، بعد الصلاة كان فرحًا جدًا، وهو يشدّ على يدي داعيًا أن يتقبّل الله منا ومنكم، كأنها كانت صلاته الأولى، أيام قليلة مرّت وإذا بي أراقبه كالعادة وهو مربوط بطوق الكلب، تتدلى من أذنيه سماعة تربطه بالهاتف الضخم الذي ينحشر في جيب بنطاله الأسود، عيناه أسفل الكاب تزيد غورًا على غور، يهتز راقصًا ناسيًا من حوله مرّات، ثم يعتدل عندما ترشقه إحداهن بنظرة احتقار فيما يتفحص جسدها، اقتربتُ منه وناولته سيجارة في تردد، أخذها مباشرة وهو يبتسم، ثم أدخلني في حديث متسمر أغلبه عن اللحم الرخيص الذي يعج به المول، كان منتشيًا بالسيجارة، مما جرأني على سؤال: \”مرتاح أنت هنا؟\” – \”فل الفل يا باشا… رضا\”.. قالها وهو يقبل كف يده ظاهرًا وباطنًا، غير واعٍ للحبل الذي أجبر رقبته أن تنحني قليلًا كي تطال يده، كانت تتقافز علامات الاستفهام في رأسي حول الكلب وطوقه، ومن رُبِطَ بِمَن؟ كانت أغنيته الشعبية تدوزن أفكاري.
(4)
أربعة أكواب من الشاي والقهوة لم أكمل واحدا منها، وفطور والكثير من محاولات مقاومة النعاس في انتظار عرض جاري على النيابة، وقبل نهاية الفترة الصباحية من عمل السادة وكلاء المجتمع، تمّ عرض تسعة أشخاص، بينهم جاري، إثر صيحة قائد الحرس \”السادة المحامون، عرض السياسي\”، لم أحضر مع جاري، ولم أنتظر لأفهم شيئًا، فقط لوحتُ له من بعيد، أقصد من قريبٍ، لكن بلا صوتٍ، كانت حالته تكفي لعدم السؤال عن أي شيء، خرجت لحظة أُغلقَ الباب خلفهم، متجهًا إلى بيتي، لأخبر أمي أو لأبكي عليه، لا أعرف أحدًا، وأحدٌ لم يشرح لي شيئًا، وأنا – حقًا- لم أكن لأسألهم عن شيء، فقد كان هناك شعورا غريبا بالارتياح، كأنها اللحظة التي لامست فيها الأرض بعد السقوط من شاهقٍ علٍ، ولم تدم لحظة الارتياح طويلًا، كأبيات شاعر عائد من الأسر ينبغي عليه كتابة الصفعات والركلات وقواميس مفردات البذاءة ومداراة بعض الأفعال حفظًا لما تبقّى لي من احترام يكفي الإشارة أننا – أنا وجاري – كلانا كنّا في نفس الحالة تقريبًا، وإن كنتُ أتعس حظًا منه بسبب جسدي النحيل، قال لي وكيل النائب العام الذي يسبق اسمه لقب (السيد): \”متأسفين، هو بس في لبس.. أنت كنت لابس نفس لبس ولد منضم للجماعة، وكان متبلغ عنه في نفس الشارع، تقدر تروح من غير ما ترجع إداري\”، وفيما يبدو كنت سعيدًا جدًا وأنا أمرّ أمام من كان يتلذذ بضربي، وكأن شيئًا لم يكن.
*********
في نهاية النهار، وأنا عائد من المول، يشغلني المجند المربوط بطوق الكلب على يمين البوابة 17 التي تعرف ببوابة الكلب، يشغلني رضاه، يشغلني أنه لم ير ما أراه فيه، أم أنني أنا الذي أعاني من الضلالات، أتخيّل تفاصيله جيدًا، الكاب والبنطال بنفس اللون الأسود، والقميص الرمادي الذي يكبره بدرجة، والبيادة العسكرية التي يبدو أنه يتحرك بداخلها، أحاول تخيّل ما يكونه الإنسان الذي لم أعرف اسمه داخل هذا الزيّ، فلا أجدني أتذكّر سوى أنه نحيل وأن عينيه غائرتان، وأن هاتفًا كبير الحجم في جيب بنطاله، وثم لا شيء، لا شكّ -أحدّث نفسي- أن هناك ما جعله لا يرى الصورة كما أراها، يقضي المجند شروق الشمس ومغيبها مربوطًا بطوق الكلب، يقضي كلاهما حاجته مع الآخر، وفيما ترتفع قيمة الكلب يختفي الإنسان تحت الكاب وداخل الطوق، اتذكّر افتخاره وهو يقول لي كيف انتصر لتكون خدمته مع الكلب داخل المول، بدلًا من أن تكون في الشارع أو تحت أسوار الجامعات، أتذكّر أن الرضا -رضاه- كان طاغيًا على كل أسئلتي، وأن شيئًا ما، أعرفه جيّدا، شيءٌ مريحٌ كان ينبعث منه، كانتشاء نهاية السقوط في آخر القاع.. السقوط الذي يسبق صفعة الألم.