قال لي أحد الأصدقاء المقربين ذات يوم: من لا يتعلم من ماضيه لن يرحمه مستقبله.
ومن لا يقرأ التاريخ، سيستمر في تكرر أخطاء أسلافه، عن كتاب \”الفاشوش في حكم قراقوش\”.. لن أصيغ المقال عن ما بداخل الكتاب، فإنه لا يعنيني في هذا المقال، أكثر ما يعنيني ملابسات الكتابه وعن أيهما ينتصر في النهاية.. السيف أم القلم؟
حلبة الصراع تنقسم بين القلم متمثلا في الأسعد بن مماتي، وبين السيف متمثلا بهاء الدين قراقوش، فيأخذنا المعلق على الحلبة في تعريف كل متصارع:
الأسعد بن مماتي: \”يعد واحد من الشخصيات البارزة التي ظهرت في النصف الأول من حكم بني أيوب، وعرف بإسهاماته الإدارية، حتى إنه أسند إليه رئاسة ديوان الجيش في عهد مؤسس الدولة، فأثبت كفاءة إداريه عالية، حتى إنه في عهد صلاح الدين الأيوبي أسند إليه -بجوار منصبه في رئاسة ديوان الجيش- رئاسة ديوان المال، وامتد نشاطه الإداري في عهد العزيز والعادل\”
بهاء الدين قراقوش: وزير الحرب لدى الدولة الأيوبيه، واسمه الكامل هو بهاء الدين بن عبدالله الأسدي، وهو في الأصل من آسيا الصغرى، رومي النسب، ولُقب بالاسدي نسبة إلى أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين، وكني بقراقوش أي النسر الأسود باللغة التركية.
قربه صلاح الدين منه في حكمه وجعله قائدا عسكريا، ولاح نجمه في مقارعة الجيوش الصليبية، أسند له صلاح الدين عدة أعمال من أهمها إنشاء قلعة الجبل (قلعة صلاح الدين على جبل المقطم) وبناء سور القاهرة وإعادة بناء سور عكا وغيرها من الأعمال.
خدم العزيز نجل صلاح الدين بعد وفاته وعمل قليلا مع العادل حتى توارى في الظل ومات.
الصـراع: \”كتاب الفاشوش في حكم قراقوش\”
ذهب المستشرق الفرنسي كازانوفا إلى أن الفاشوش صورة غضب وحقد موجهة من ابن مماتي ضد الدولة، وأنه (إثير لحادث خطير وهو سقوط الفاطميين وأنه يعتبر المظهر الأخير لبغض مصر وأهلها لكل فاتح لبلادهم، وهو بغض أيقظه في نفوسهم انهيار الخلافة الفاطمية وقيام الدولة الأيوبية التي أعادت الأمر إلى بني العباس)
شكك العلماء والمؤرخون بالأحكام التي نسبها ابن مماتي لقراقوش، فقد قال ابن العماد الحنبلي: \”الأمير الكبير الخادم بهاء الدين الأبيض فتى الملك أسد الدين شيركوه، وقد وضعوا عليه خرافات لا تصح، ولولا وثوق صلاح الدين بعقله لمّا سلّم إليه عكا وغيرها، وكانت له رغبة في الخير وآثار حسنة\”
ويقول ابن خلكان عن كتاب الفاشوش: وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعة، فإن صلاح الدين كان معتمدا في أحوال المملكة عليه، ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته، ما فوضها إليه\”
قال القفطي عن ابن مماتي هذا: كان من أقباط مصر في عصرنا، وكان جده جوهريا، يصبغ البلور صبغة الياقوت فلا يعرفه إلا الخبير بالجواهر، وهذا يعني أنه كان يدلس، فلا غرو ولا غرابة أن يمتهن حفيده مهنته في تزييف الحقائق عن بعض الرجال، ومن يشابه أباه فما ظلم.
قال ابن خلكان: وقد نسب إلى قراقوش أحكام عجيبة، حتى صنف بعضهم جزء لطيفا، سماه: كتاب الفاشوش في أحكام قراقوش.
(وينسب إلى السيوطي خطأ، وإنما هو لأسعد ابن مماتي) فذكر أشياء كثيرة جدا، وأظنها موضوعة عليه، فإن الملك صلاح الدين كان يعتمد عليه، فكيف يعتمد على من بهذه المثابة، والله أعلم.
لقد دلس ابن مماتي في كتابه \”الفاشوش عن قراقوش\” خرفات لا تصح ولا يقبلها عقل سليم، ولولا وثوق صلاح الدين بعقله، لم يسّلم إليه عكا وغيرها، وكانت لقراقوش رغبة في الخير وآثار حسنة.
من هذه الخَرَفَات ما يقوله ابن مماتي:
جاء فلاح إلى قراقوش يشكو لصا سرق من داره دجاجة، وقدَّم شاهدا، وعند استجواب اللص واعترافه، أعلن قراقوش الحكم التالي:
اللص غرم دينارا، وصاحب الدجاجة غرم دينارا، والشاهد غرم دينار أيضا، وعندما سُئل عن حيثيات هذا الحكم البهلواني قال معللا:
حكمت على اللص لأنه معتد على مال غيره، وعلى صاحب الدجاجة لأنه قصَّرَ في حفظها، ولما سئل ما ذنب الشاهد يا مولانا؟!
أجاب قراقوش: لأنه تدخَّلَ فيما لا يعنيه.
إنها قصة أشبه بقصة توفيق الحكيم حين كتب ساخرا عن الأوز، بيد أن فيها تهكما على الأحكام الشرعية، تدل على خبث في الطوية.
وللمهذب ابن الخيمي في الأسعد ابن مماتي يهجوه:
وحديث الإسلام واهي الحديث باسم الثغر عن ضمير خبيث
لو رأى بعض شعره سيبويه زاده فـي علامة التأنيث.
الخلاصة: ليس ما يهمني من انتصر على من في تلك المعركة التي تقول إن التاريخ يقوي شوكة الكاتب وما كتب على حساب صاحب السيف، فما قول القارئ حين يجتمع السيف والقلم معا في تناغم رهيب ينتج عنه تزوير للحاضر قبل أن ينتهي، فكيف ببضع السنوات من الآن؟!
أنا لست صحفيا، ولن أكون، لكنني متابع جيد لكل الاخبار المتداولة.. الرث منها والثمين.. أملك المقدرة على اقتفاء المصدر وتنقيحه، ومعرفة أيهما جيد وأيهما مصنوع بغرض ذر الرماد في العيون وإلهاء الشعب.
لماذا تحول كثير من أصحاب الأقلام لمناصرة السيف؟
سؤال يجيب عنه القارئ.