محمد صبحي يكتب: لمّ لا يبقى في المزاود إلا شرّ البقر؟

وقفت في حضرة الشيخ عبد الله البلخي باكيا وقلت: يا شيخي أخشى على نفسي مصير شهريار، فقال بهدوء العارفين: يا بنيّ شهريار هارب من ماضيه فمم أنت هارب؟ قلت: أنا هارب من ماضيّ ومن مستقبلي، أبحث عن الحق وأخشى أن أجده، فلا طاقة لي بتبعات معرفته. فقال مستعيرا مقولة عبد الله العاقل: \”من غيرة الحق أن لم يجعل لأحد طريقا إليه، ولم يُيّئس أحدا من الوصول إليه، وترك الخلق في مفاوز التحيّر يركضون، وفي بحار الظنّ يغرقون، فمَن ظنَّ أنه واصل فاصله، ومن ظن أنه فاصل تاه، فلا وصول ولا مهرب عنه ولا بدّ منه\”.   من رواية \”ليالي ألف ليلة\” – نجيب محفوظ

إذا كنت من بلاد العالم الثالث أو النامي أو الفقير أو المتخلّف؛ لابد أن يصيبك الشعب الأمريكي بالدهشة المقترنة بالإعجاب أحيانًا رغمًا عنك، فتراه وقت أن أحدث الإرهابيون المتأسلمون كارثة 11 سبتمبر أخرجوا لنا وجها لأمريكا لا يتماشى مع أحلامنا في الأمل والعدالة في المستقبل، أخرجوا لنا وجه أمريكا القبيح: بوش الابن (أو مستر هايد) زعيمًا لقيادة المحافظين الجدد والمتمسّح أيضًا في الدين بعبارات كهنوتية متعصّبة ليُخرج لنا من جعبته الدمار والتخريب. نفس الشعب سيُخرج لنا -بعد 8 سنوات- أعجوبة جديدة، ليظهر دكتور جيكل الطيب بعد أن لطّخ مستر هايد وجه العالم بالدماء والدمار والغباء. أخرجوا لنا من جعبتهم، كحواة للقرن الحادي والعشرين، باراك حسين أوباما، في خطوة كبيرة وفارقة في تاريخ طويل ممهور بالعنصرية البغيضة تجاه الأقلّيات وفي مقدمتهم الأمريكيون السُود. اختاروا الإنحياز لمفهوم المواطنة عندما اعتبروا أن الانتماء للوطن هو الاعتبار الوحيد لتحديد الحقوق والواجبات، بمعيار يحميه مبدأ تكافؤ الفرص داخل الوطن دون تمييز ديني أو عرقي أو عقائدي للون أو لغة أو جنس إلخ، وبالتأكيد دون تمييز اجتماعي ووظيفي، فلا يمكن تصوُّر أن يخرج أحدهم في أمريكا مثلاً ليقول إن أمريكا، القوة العظمى الأولى في العالم، يجب أن يحكمها رجل عسكري. ولكن هذا حديث آخر وشجونه كثيرة ومن الأفضل أن نعود لموضوعنا.

المهم أن ما أثبتته تلك التجربة في انتخاب أوباما، هو التأكيد على أن خصوصية الأفراد داخل المجتمعات تُقاس بما يستطيعون إنجازه بمَلَكاتهم وقدراتهم، فالشعب الأمريكي بالمواطنة انتخب صاحب البشرة السمراء رئيسًا لأول مرة في التاريخ، والمفارقة أن ذلك الحدث التاريخي جاء بعد 8 سنوات عجاف من حكم بوش الابن (أو مستر هايد)، وكأن الأمر أشبه بسيناريو فيلم تشويقي يحتوي على انقلاب درامي (twist) يغيّر دفّة الحكاية. أحيانًا تبدو لي الانتخابات الرئاسية الأمريكية وطريقة سيرها المعقدة وكأنها لعبة أتقنها المجتمع الأمريكي، يجرِّب الشرير فترة وإذا لم يعجبه يجرِّب حظه مع الطيب وهكذا.

في 2008، كان دور السفاح قد انتهي مرحليًا وفقدت الولايات المتحدة سُلطتها الأخلاقية في \”الحرب على الإرهاب\” بعد فضائح وكوارث في العراق وأفغانستان، ولكنها أتقنت اللعبة الديمقراطية المُسمَّاه بديمقراطية الحزبين الوحيدين لتخرج لنا دكتور جيكل. والآن ونحن على أعتاب ظهور رئيس جديد لأمريكا؛ تبدو كفّة الاحتمالات مائلة ناحية سيناريو مجنون يتصدّره دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري في وقت معقّد وساخن يحياه العالم؛ مع تهديدات إرهابية تلاحق الدول الغربية ودول مُستعِرة في الشرق الأوسط تلفظ أبناءها ليهبطوا على الأرض الأوروبية التي تلفظهم هي الأخرى. هل نحن على أعتاب مستر هايد جديد؟ ربما.

****

إذا كنت عاقلاً يقرأ التاريخ ويتعلّم منه؛ ستؤمن معي أن الغباء توافر بنسب هائلة في الجينات الوراثية للمؤخرات التي جلست على عرش مصر، يتساوى في ذلك سلاطين وولاة وحكّام ووزراء، ويتساوى في ذلك العهود العبّاسية والمملوكية والعثمانية وعهود ما بعد الاستقلال سواء بسواء. تتشابه هذه الجينات وتتوالد وتواتُر الحكم في مصر، سواء كانوا سلاطين يحكمون من عواصم إمبراطورياتهم أو ولاة صغارًا يجمعون الضرائب من دماء المصريين وعروقهم ويجبرون العجائز والشباب على العيش جوعًا والنوم جوعًا والموت أمام لقمة العيش.

إذا كنت عاقلاً يقرأ التاريخ، ستصدم من كتاب ألفّه ابن مماتي تحت عنوان \”الفاشوش في حكم قراقوش\” ستجد فيه أن سلالة الأغبياء لم تنقطع من البيت المصري الحاكم، بل ستكتشف أن مواهب عدّة يفرزها على المقاعد. \”ابن مماتي\” هو نفسه كان رجل المناصب الإدارية المرموقة في الدولة الأيوبية على عهد صلاح الدين الأيوبي وهو مؤلف \”قوانين ابن مماتي\” التي تضمّنت أقدم مسح لقرى مصر ومدنها عرفناه حتى الآن، ورغم ذلك رفض ظلم وزير صلاح الدين على مصر وهو الوزير الجاهل الغاشم بهاء الدين قراقوش، الذي أصبح أعظم مَثَل في التاريخ المصري للغباء خصوصًا غباء السياسة.

\”الفاشوش\” كلمة دخلت العامية المصرية لتعني ضحل القيمة عديم النفع، ووصف حاكم بها يعني أن سوءاته فاقت كلّ حدّ وأن الأيام السوداء فقط هي التي تجلب حكاّمًا هكذا لشعوب هكذا، خصوصًا لو كانت شعوبًا \”بنت نكتة\” تحبّ السخرية زي عينيها وتحوّل كلّ كواراثها إلى ضحك يخلّصها من الهموم اليومية والممتدّة. يحكي ابن مماتي نوادر قراقوش مع المصريين فيقول: \”اصطدم جندي بامرأة حامل في الشهر السابع فأسقط حملها، ولما قاده زوجها الغاضب إلى الوزير قراقوش أمر الجندي أن يصطحب المرأة فيطعمها ويكسوها ولا يعيدها إلى زوجها إلا وهي حامل في سابع شهر مثلما كانت\”. وإليكم هذه أيضًا: احتكم شيخ وصبي إلى الوزير قراقوش في ملكية دار، واعتقد الوزير أن الدار لابدّ أن تكون للشيخ ولا تكون للصبي فقال: \”يا صبي، ادفع له داره، فإذا صرت في عمر ذلك الشيخ دفع لك الدار\”.

غباء زاد عن حدّه ينطبق عليه المثل القائل: \”يشيل إيده من ع الكسبانة ويحطّها ع الخسرانة\”، حاكم أهطل ومفضوح يتفوّق على نجوم كوميديا الغباء شرقًا وغربًا، وأقلّ قِصّة يحكيها ابن مماتي عنه تصلح فيلمًا هزليًا يُضحك به \”ساشا كوهين\” جمهوره بدلاً من تدني مستواه الحالي في الإضحاك. وإذا كنت عاقلاً يقرأ التاريخ ويستعين بالجغرافيا، ستجد أن الرئيس الأمريكي الأسبق جورج دبليو بوش كان غبيًا بدرجة كبيرة، وسواء كان الغباء هناك في واشنطن أو هنا في القاهرة الأمر سيان، فقد تعدّدت الأسباب والغباء واحد: \”حصاوي\” من النوع الذي تجده في سوق السيدة عائشة و\”كاوبوي\” من النوع الذي يطلّ من عينيّ بوش الابن أو حتى دونالد ترامب، والأخير يبدو صعود نجمه دليلاً مثاليًا على عصر السوشيال الميديا، حيث أهميتك تُقاس بما تستطيع إحداثه من ضجّة وانقسام.

وإذا كنت قارئًا للتاريخ بقلب مفتوح وضمير مصحصح ستجد أن أول رئيس مصري منتخب وهوالرئيس المصري المعزول محمد مرسي، هو آية من آيات الغباء الحاكم، حتى إن الملايين لم تتحمّله لأكثر من عام، ونزلت إلى الشوارع للتخلّص منه ومن جماعته (بعيدًا عن السياق المريب الذي تمّ فيه \”الأمر\”، وبعيدًا كذلك عن النهاية المأساوية للمعتصمين المطالبين بعودة الشرعية للرئيس المعزول).

ولكن يبدو أن مصر، التي تناوب عليها حكّام لا يختارهم الشعب غالبًا، حين خطت أول درجات سُلّم الديمقراطية والدولة الحديثة، لم تعرف سوى وجهًا واحدًا للحكّام من دون أن يتغيّر حالها، فيظلُّ مسترا هايد هو مستر هايد، ولكن بقناع جديد، ويبقى الغباء غباءً، وإن تعدّدت الأسماء والألقاب والخلفيات الوظيفية، بينما المواطنين، المواطنين بجد، لا يملكون سوى مرارة الرثاء كما تخبرنا \”ليالي ألف ليلة\” لنجيب محفوظ: \”استشهد الشرفاء الأنقياء.. أسفي عليك يا مدينتي التي لا يتسلّط عليك اليوم إلا المنافقون.. لما يا مولاي لا يبقى في المزاود إلا شرّ البقر؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top