حينما خطب عبد الناصر في الثاني من نوڤمبر عام ١٩٥٦ من على منبر الجامع الأزهر، متحدياً العدوان الثلاثي بكلماته الحماسية “إذا كانت بريطانيا بتعتبر إنها دولة كبرى، وفرنسا بتعتبر إنها دولة كبرى، إحنا شعب مؤمن.. حيكون شعارنا دائماً الله أكبر.. الله يقوينا.. والله ينصرنا.. نعتمد على الله وعلى أنفسنا، وسنجاهد ونكافح ونقاتل، وسننتصر بإذن الله.. والله أكبر.. والله أكبر. وفقكم الله.”
كان عبد الناصر وقتها يدرك تماماً في كواليس حكمه أن صفقة الأسلحة التشيكية (السوڤيتية التي مرّرت من خلال تشيكوسلوڤاكيا) الموقعة في براغ بتاريخ ٢١ سبتمبر ١٩٥٥، بقيمة يذهب بعض الخبراء لتقديرها بـ٤٠٠ مليون دولار، تعني أن الاتحاد السوڤيتي يعلن بهذه الصفقة اعترافه الكامل بـ”ثورة يوليو” على الإمبريالية والإقطاع، بعدما كانت أولى التصريحات السوڤيتية تصفها بالإنقلاب العسكري البورجوازي.
كان ناصر كذلك يدرك تداعيات الانتفاضة المجرية (٢٣ أكتوبر-٩ نوڤمبر) عام ١٩٥٦، وكان ناصر أيضاً قادراً على قراءة الخريطة السياسية الدولية مدركاً لمعنى اقتحام المجنزرات السوڤيتية الشيوعية “الملحدة”، “القاسية” لبودابست (راح ضحية عملية “الزوبعة” الشهيرة ٢٦٥٢ قتيل، و١٩٢٢٦ جريح!).
في الوقت نفسه كان ناصر يحكم شعباً لا يتجاوز تعداد سكانه خمسة وعشرين مليوناً (تعداد ١٩٤٧ كان عدد السكان ١٧ مليون، وأول تعداد تقوم به الحكومة المصرية المستقلة في ١٩٦٦ كان تعداد السكان يقارب ٢٨ مليوناً)، ترزح أغلبيته تحت الفقر والجهل والمرض، ويحتاج إلى خطابه باللين والود والحماسة والدين، لذلك كان الأزهر، والحركة المباركة، والله أكبر على الرغم من الاستناد إلى القوى الشيوعية الملحدة!
حينما احتاج الرئيس المؤمن محمد أنور السادات اكتساب شرعية جديدة تمحو شرعية يوليو، كان عليه أن يقوم بما أسماه “ثورة” جديدة.. ثورة “التصحيح”، ربما كان يعني تصحيح ما حدث في ١٩٥٥ من اعتمادنا على الكتلة الشرقية التي عجزت من وجهة نظر الرئيس المؤمن عن أن تحقق للشعب المصري آماله (على الرغم من السد العالي، والحديد والصلب، ونجع حمادي للألومنيوم، وأكاديمية الفنون وغيرها)، بل وتسببت في نكسة يونيو ١٩٦٧.
عقب ثورة التصحيح استخدم الرئيس المؤمن الإخوان في التخلص من اليسار ليزرع في تربة البيزنس والفساد وانفتاح السداح مداح الخصبة شجرة سوف تثمر ثمارها فتقتل السادات شخصياً، ثم تمتد لتبتلع الوطن بأكمله.
نخرت الوهابية عظام الوطن المهترأة بعدما عاد المجاهدون من أفغانستان بخطاب التكفير، وعاد المصريون العاملون في الخليج بقيم الاستهلاكية والطفيلية والأنانية والجشع والكراهية غير المفهومة أو المبررة للوطن والعالم والحياة بأسرها.
في الثمانينات مضى نظام مبارك الساقط على نفس خطى السادات مع بعض التعديلات، فعزز من قوات الأمن المركزي، والشرطة، وترك لوزارة الداخلية مهمة التعامل مع الإرهاب، واكتشف الحيلة الجهنمية في استخدام الإسلام السياسي فزاعة مناسبة، تكفل له استمرار واستقرار سلطته العنينة.
بدخول جمال مبارك وشلة “الثورة الاقتصادية” إلى الحلبة توجس الجيش من الشبح المدني القادم كي ينسف أساس دولة يوليو التي استمرت على الرغم من تعديلها بشرعية “ثورة التصحيح/أكتوبر” وشرعية “الضربة الجوية”، بدت حركة مبارك الأصغر وزملائه من الاقتصاديين النابهين تحمل قدراً من الاستدامة والتهديد لدولة يوليو، على الرغم من امتلاكها لأدوات سياسية مهترأة ورثها مبارك الإبن عن الأب، وعن السادات وعبد الناصر، لكن الفتى المدلل لم يكن ينزل إلى مدن الأموات والعشوائيات، ولا يتعامل مع المهمشين والفقراء، ربما كانت أقرب نقطة تلاقٍ له مع الشعب في استقباله فريق كرة القدم، واستثماره لقب “مصر بطل أفريقيا” كجسر يعبر من خلاله إلى قلوب الجماهير، لكن الجماهير الجائعة المريضة الجاهلة لم يعد يعنيها ما يحدث في البلاد، قدر ما يعنيها رغيف العيش، فقامت الثورة.
بعد الثورة وحينما تحطمت كل أحلام اليقظة لـ”جبهة فيرمونت” على صخرة التعبير الصادق للمستشار محمود مكي رجل العدل والقانون “البقاء للأقوى” شارحاً معنى الإعلان الدستوري الرباني لأول رئيس مؤمن منتخب دكتور محمد مرسي، أصبح الشعب المصري أمام اختيارين كلاهما مر، فاختار الشعب ما رآه أقل مرارةً بكل تأكيد، وقفز المواطن البسيط الذي أمُل خيراً من حديث الرئيس المنتخب له عشية فوزه في انتخابات الرئاسة ٢٠١٢ من قارب الندامة، إلى ما ظنه قارب السلامة، حيث رأى من قد يحنو عليه من فرسان يوليو الجدد.
خرج الأسد السيسي ليعلن بكل قوة عن دولة جديدة على أنقاض دولة قديمة، دولة “ديمقراطية” و”حديثة” تمر بمرحلة إنتقالية ينفذ فيها الجيش خارطة للطريق برعاية طوائف المجتمع وأقطاب الثورة (الثورة الأولى التي اغتصبها الأخوان عنوة).
بجوار وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي الذي قرأ بيان الجيش في ٣ يوليو ٢٠١٣، جلس الدكتور محمد البرادعي أيقونة الثورة، معبراً عن شرعية ما بصدد أن تؤسسها الثورة الجديدة التي قامت في الثلاثين من يونيو، لكن أعداء تلك الثورة من الإخوان، الذين فقدوا في تلك اللحظة حلماً عزيزاً، عملوا على تحقيقه ثمانين عاماً، كانوا على استعداد لتفخيخ الوطن بأكمله دفاعاً عن رئيسهم المؤمن المنتخب (لكنه وياللعجب ديكتاتور شأنه شأن الجميع!)، ودفاعاً عن تنظيمهم الدولي الذي لا تشكل مصر فيه سوى حلقة من حلقات، ومصر من أمصار.
لقد كان البرادعي على صلة بالإخوان منذ الجمعية الوطنية للتغيير، حينما خانوه ودخلوا الجولة الأولى لانتخابات ٢٠١٠، ثم عادوا بعد الجولة الأولى حينما أدركوا أنه كان على حق.
كان البرادعي قادراً من خلال اتصالاته بقيادات الإخوان، وعلاقاته بالاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة الأمريكية أن يعبر من تلك الورطة التي يصف فيها الإخوان ثورة يونيو بالإنقلاب ويسعون إلى أكبر عدد من الخسائر البشرية (هولوكوست مصغّر!) يبتزّون به العالم، كان البرادعي هو ذلك الجسر الذي سوف تعبر عليه مصر من “الإنقلاب” العسكري إلى “الدولة الديمقراطية”، لكن أحداً من الصقور لم يستمع إليه، ولم يأخذه مأخذ الجد.. “أصل البرادعي مدني، والمدنيين دول يا باشا… حضرتك عارف بقى!”.
من وجهة نظر “الدولة” الجديدة كان البرادعي في تلك اللحظة وما تلاها هو مجرد سياسي ساذج، جسر عبر عليه الجيش، كما عبر على الشعب إلى محطته النهائية ضارباً كل عصافير “التوريث” و”الإخوان” بحجر واحد.
المحطة النهائية التي ظن النظام وربما لا يزال يظن أنها “دولة يوليو جديدة”، لكن دولة يوليو القديمة كانت تمتلك عدداً أقل بكثير من المصاعب والتحديات، وعدداً أقل بكثير من السكان، ودرجة أعلى بكثير من القدرات السياسة ورؤية المتغيرات الإقليمية المحيطة على كل اختلافنا معها وفشلها في واقع الأمر!
لقد شرع الجيش في حرق البرادعي، وفض رابعة والنهضة، ومنح الإخوان ما سعوا له من هولوكوست مصغر يحمل علامة تجارية صفراء وتجارة رابحة في أوساط حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، وحُرمت مصر بذلك من الشرعية الدولية التي تحتاجها كي تمضي في طريقها نحو الدولة الديمقراطية الحديثة.
أغلقت المنابر، والمعابر، والمنافذ، وشحت العملة الصعبة، وقفزت الأسعار، ومعها بدأ حديث المؤامرة الدولية العالمية الكونية على مصر، وعلى رئيسها.
أهدر النظام فرصاً سياسية كثيرة للحركة نحو المجتمع الدولي الذي أصبح يرى في ظل سماوات مفتوحة كيف يزور رئيس البرلمان المصري روسيا (الحليفة نظرياً!) عقب انتهاء انعقاد الدورة البرلمانية، فيحظى الوفد بزيارة لمدة ساعة واحدة لمبنى البرلمان، ولا يقابل حتى رئيس البرلمان الروسي (المنتهية ولايته أصلاً)، والذي لقي حفاوة شديدة في القاهرة منذ أشهر.
يرى العالم الآن بكل وضوح كيف تعيد روسيا في غضون ساعات كل علاقاتها مع تركيا، وتبدأ الحديث عن الاستثمارات من حيث انتهى في نوڤمبر عقب إسقاط مقاتلة روسية بنيران الجيش التركي.
أما السياحة على شواطئ البحر الأحمر، وعلى الرغم من أن مصر كانت ضحية لا معتدٍ (كما كانت إسطنبول هي الأخرى ضحية لعمل في مطارها الرئيسي)، فسوف يعيدها لنا الروس حين ميسرة.
إيطاليا أوقفت صفقاتها وتعد بالمزيد، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا يهمهم فقط ما نحصل عليه من معونات كي نشتري أسلحة أو بضائع.. ولم يتبق أمامنا سوى إسرائيل نحاول من خلالها أن نحصل على شرعية ما، ربما قد تكون جسراً للولايات المتحدة الأمريكية التي قد تساعدنا أو لا تساعدنا في عودة الشرعية الدولية لنظامنا كي نتعامل مع العالم.
حينما تظن أنك تمكنت من النيل من خصمك، وتمارس بكل شراسة أدنى أنواع الفجر في الخصومة.. فأنت خاسر.
في وقت كنا نمتلك بضع مفاتيح للأزمة ألقينا بها إلى البحر في لحظة منتشية بالنصر، ظناً منا أننا لن نحتاجها يوماً.. الآن كل المفاتيح الأخرى لا تفتح.
مفتاح الفرج من عندك يا رب.