على أعتاب الأكاديمية الفنية، التقيت الدكتورة المرموقة، حينما تحدثنا عبر الهاتف أكدّت بينما نتحدث عن سنة من السنوات إنها السنة التي حصلت فيها على جائزة الدولة، وفي معبر حديث آخر، حدثتني عن لقائها بعبد الناصر، والسادات.. كنت وقتها غرا يانعا لازلت أدرس البيانو في كونسيرڤاتوار لينينجراد (الذي أصبح كونسيرڤاتوار بطرسبرغ فيما بعد).. قالت لي أمام الأكاديمية تلك العبارة التي لم أنسها يوماً، وعدت إليها مراراً: \”مش هتتجدعن بقى يا محمد وتدرس قيادة بعد البيانو؟\”
كانت ضربة قاصمة لم أتوقعها من دكتورة على هذا القدر من المعرفة والتعمق في علم الموسيقى، لم أفهم كيف تكون العلاقة بين آلة موسيقية وقيادة الأوركسترا علاقة تصاعدية هرمية يقع على رأس الهرم فيها قيادة الأوركسترا، بل كيف تأتى لدكتورة بهذا الحجم ترسم مستقبل أجيال بأكملها أن تفكر على هذا النحو الساذج؟!
لكن حديث الجوائز ولقاء الزعماء، والتأكيد على أن الوصول إلى هدف الحياة، إنما يتمثل بعدد الجوائز والأنواط والأوسمة كان متآلفاً مع ذلك السؤال الهيراركي المقيت، حيث كنت أدرس وقتها لم يدر بخلد أحد هذا السؤال، كان أستاذي يمارس التدريس أربعين عاما، وتخرج على يده أكثر من ثمانين عازفا للبيانو، وغيره كثيرون ممن كانوا يمارسون أعمالهم في رضا وقناعة ومهنية مستدامة رفيعة.. لم يرغب أي منهم في \”التطور\” أو في \”الصعود إلى أعلى\”، بل قل أن الصعود إلى أعلى بالنسبة لهم كان يمثل مزيدا من المعرفة، مزيدا من القراءة، مزيدا من التبحر في التخصص.
مضت الأيام، وعدت من روسيا، وعملت بأوركسترا القاهرة السيمفوني، لتفاجأني تلك الظاهرة عبر التاريخ.. أن هناك الكثيرين من الموسيقيين، ما إن أتموا دراسة آلاتهم وبرعوا فيها، حتى اتجهوا إلى القيادة كتطور طبيعي، فكان أن فقدوا ما برعوا يوما فيه، ولم يتحققوا في القيادة إلا قليلا.
بنفس الكيفية التي يريد فيها الكل أن يكون أبناؤهم أطباء ومهندسين ومحامين، والتي من أجلها أنشأت جامعات خاصة تتيح لمن عجز عن ذلك سبيلا لأن يسلك طريقا موازيا، طالما تعذر التحصيل ووجدت النقود، وبنفس الكيفية التي اهترأت بها المنظومة التعليمية في مصر.. تعيش تلك الجرثومة داخل عقل النخبة الموسيقية المصرية، ولهذا السبب أصبح لدينا بدلا من فرقة واحدة للموسيقى العربية، أربع وخمس فرق، وبدلا من قائدين أو ثلاثة.. ستة وسبعة، وما تيسّر ممن يبحثون عن مكانهم تحت الشمس على منصة القيادة.
الموضوع لا علاقة له بالمادة كما هو الحال في المهن الأخرى، لكن له علاقة بالبرستيچ.. بالمكانة الأدبية، والزعامة.. بصرف النظر عن الحاجة الأساسية لدى المجموع إلى أكثر من قائد، خصوصا إذا لم يكن هناك ما يضيفه.
اذكر حينما كنت بصحبة صديق مخرج مسرحي جاء بعرض روسي إلى القاهرة، وكنّا نعدّ الخشبة للعرض، وقد وقف ثلاثة أو أربعة \”قادة\” يصدرون الأوامر المتضاربة لعامل واحد مسكين موجود على برج من أبراج الإضاءة، لفت ذلك نظر صديقي المخرج، وصعد ليساعد العامل متذمرا من وجود كل هؤلاء القادة، ووجود شخص واحد ينجز العمل الحقيقي على الأرض.
لماذا لا يستمتع السائق بعمله فيؤديه على أكمل وجه؟ لماذا لا يستمتع الخباز بعمله ويؤديه كأجمل ما يكون؟ لماذا لا يستمتع العامل والفلاح وجامع القمامة بأعمالهم، ويدركون دورهم وأهميتهم وقيمتهم في المجتمع؟ لماذا لا يولد الإنسان عازفا للبيانو أو الكلارينيت أو الأوبوا أو الكمان ويظل هكذا، ويتطور هكذا، ويبدع هكذا دون أن يصبح – بالضرورة -قائدا أو مشرفا أو مديرا أو رئيس مجلس إدارة أو أي مسمى من المسميات الإدارية التافهة التي تفسد حياتنا ومجتمعنا وتحوله إلى كومة قبيحة من العشوائية والتكدس؟
لم تعد الدكتورة المرموقة صاحبة السؤال بين الأحياء، لكن إجابتي عن سؤالها بعد مرور عشرين عاما واضحة وصريحة:
\”ما اتجدعنتش يا دكتورة، ومش عايز أتجدعن، ولا عايز أبقى قائد\”