استمعت على الهواء مباشرة في ٢٠١٠ لقفشة مبارك الشهيرة: \”خليهم يتسلّوا!\” حول البرلمان الموازي، والاعتراضات التي انهالت على التزوير الفاضح في انتخابات ٢٠١٠. انتابنتي وقتها مشاعر القهر والمرارة. تابعت ابتسامات الحاضرين، وتابعت بعدها خيلاء وغرور شباب \”المستقبل\” وأصحاب \”الفكر الجديد\” وشعار \”من أجلك أنت\” (حيث يعود الضمير في العبارة السابقة على المواطن المصري!) وعلى رأسهم امبراطور الحديد أحمد عز، و\”مفجّر الثورة الاقتصادية\” جمال مبارك، ممن تعاملوا مع الدولة المصرية من منطلق الشركة المساهمة لا من منطلق الدولة العتيدة القديمة، وتعاملوا مع الشعب المصري بوصفه كتلة غير متجانسة من الزبائن، وترجموا أرقام الإحصائيات على الورق الذي تصكّه مؤسسات البورصة ومتخصصي الاقتصاد \”الدوليين\” بوصفها \”نهضة\” و\”ثورة\” اقتصادية، وتعاملوا مع بيع أصول الدولة، وتدفق الاستثمارات الأجنبية لشركاتهم التي تقتسم فيما بينها جميع التوكيلات والتوريدات والأراضي والدولة بصفة عامة بوصفه ارتفاعاً في مستوى المعيشة.
لازالت ترنّ في أذني عبارات رئيس الوزراء الأسبق الدكتور أحمد نظيف الخاصة بارتفاع مستوى معيشة المواطن المصري استناداً إلى عدد مكيفات الهواء المباعة، وارتفاع استهلاك الكهرباء، وازدياد النفايات بشكل مضطرد. ولازلت أذكر مقالات الدكتور عبد المنعم سعيد التي كانت دائماً ما تعطيني انطباعاً أنني لا أعيش في نفس الوطن الذي يعيش فيه الصحفي الكبير، الذي كان يطل على مصر من نافذة الصحيفة الرسمية للدولة. لذلك جاءت الثورة المصرية المجيدة نتيجةً طبيعيةً منطقيةً لذلك البون الشاسع بين الخطاب الرسمي والحياة العادية للمواطن العادي، بين المكتوب والواقع، وبين الأحلام والحقيقة، وبين ملاعب الجولف في ضواحي القاهرة وماعداها.
لازلت أذكر محمد ثروت وهاني شاكر.. “بلداااي، بلدي يا بلدي”، الأغنية الوطنية الشهيرة، بالكاد أتذكر أوبريتات وطنية في مناسبات وطنية فخيمة حضرها فخامة الرئيس محمد حسني مبارك، أذكر التسجيل التلفزيوني، وأذكر نوع الصوت الردئ.
تحولت الوطنية إلى “إفيه” في فيلم كوميدي، “نكتة” يتداولها الشعب المصري المحب للسخرية والضحك والحياة.
تحول حب الوطن إلى مشاعر تكاد تصل إلى حد الابتذال.
كان هذا زمن..
ثم جاء زمن آخر تبدلت مشاعر القهر والمرارة بلحظات رقيقة حالمة أعقبت الثورة العظيمة.. كانت أولى تلك اللحظات حينما قابلت ابني مزدوج الجنسية بعد اندلاع ثورة الخامس والعشرين، وكان ذلك فيما أظن بعد يومين أو ثلاثة من جمعة الغضب وقد انقطعت الاتصالات والأخبار. في تلك اللحظة أظن أنني كنت أقول له بفخر أنني كنت في الميدان مع المتظاهرين من الخامس والعشرين وحتى الثامن والعشرين من يناير، وأنني إنما أفعل ذلك حتى يقع اختيارك يا صغيري في يوم من الأيام على جواز السفر المصري بدلاً من الأجنبي. ولكي تفخر بوطنك وشعبك دائماً. كنت أخاطبه وإذا بأعراض غريبة لم تنتبني من قبل.. تهدج في الصوت ودموع انهمرت بلا إرادة ودفء شديد في الروح حينما نطقت كلمة “مصر”.. كانت المرة الأولى التي لا أخجل فيها من “الوطنية”، كانت المرة الأولى التي أحس بالإنتماء الحقيقي لهذه الأرض.
لم تعد الوطنية “إفيه” أو “نكتة” في فيلم كوميدي..
لم يعد حب الوطن “أغنية” أو “أوبريت” تموله الدولة أو الدائرين في أفلاكها.
مباشرة عقب تلك اللحظة جاءت اللحظة الثانية وقد رأيت أحد المواطنين الشرفاء يلقي بالقمامة من زجاج سيارته فحاذيته وطلبت منه ألا يكررها. المدهش أن المواطن أذعن بخضوع وبدا لي من علياء سذاجتي الثورية أنه يتفهم طبيعة انتهاكه للفضاء العام، وإضراره بممتلكات الشعب، ممتلكاتنا نحن، ممتلكاته هو شخصياً، الوطن الذي عاد لنا نحن الشعب!!. تصوّرت ببراءة أن اللحظة الثورية في التحرير سوف يتمدد أثرها عن قريب ليشمل الوطن كله، والإقليم وربما العالم. تصورت أن المواطن المصري الشريف وبعد أن أيقظت ضميره لاشك أنه سوف يراجع نفسه في جميع تصرفاته، وربما سوف يخلص في عمله صباح الغد، بل وغالباً ما سيربي أبنائه على الفضيلة والصدق والأخلاق الحميدة وحب الوطن. كان الحس الوطني في دائرة الثورة الضيقة التي أشعلت الثورة في ربوع الوطن يلف تلك الدائرة وكأنما يضعها في بؤرة الضوء، ويضع على كاهلها مسئوليات الحفاظ على ممتلكات الدولة، وموارد الوطن، وتسليم السلطة (وكأنما كانت السلطة بحوزتنا يوماً) إلى يد أمينة تحقق أماني جموع الشعب في الخبز والحرية والعدل والكرامة.
كنت صادقاً ومؤمناً بكل كلمة قلتها أو كتبتها أو صرختها.. كنت مصدقاً لكل مظاهرة شاركت فيها، وهتفت بكل جوارحي وأحسست بضآلتي الشديدة وجهلي الشنيع وتفاهتي اللانهائية أمام عظمة الشعب الذي تعرّف على بعضه البعض في دائرة التحرير.. الميدان والمفهوم.
اللحظة الثالثة حينما كنت أمر بعد الحادي عشر من فبراير، وقد أمسك أحد الشباب بالفرشاة يدهن أسوار الميدان باللون الأخضر، اقتربت من الشاب، وربتت على كتفه بينما أقول له: “عاش، ربنا يحميكم يا بني”.. في هذه الثانية العجيبة تهدج صوتي مرة أخرى، ومضيت وقد انهمرت دموعي مرة أخرى، وأحسست بذات الدفئ الهادر يحتضنني، أحسست بالوطنية والانتماء من جديد، بدون هاني شاكر أو محمد ثروت، وبدون أوبريت عظيم لكوكبة ونخبة من فناني الدولة.
أخال الوطنية مفهوماً أعمق بكثير من ألحان مصطفى كامل وعمرو مصطفى، وأوسع بكثير من معاني كلمات “تسلم الأيادي” و”بشرة خير”.. لا أرى الوطنية في الاحتفالات والكرنفالات والمهرجانات والتفاف مسئولي الدولة حول الرئيس.. الوطنية لحظة صادقة مع النفس، امتلاك حقيقي للأرض، تواصل حميم مع البشر.. كل البشر في كل ربوع الوطن .. وهذا لا يحدث ولن يحدث طالما عاش بيننا الفقر والمرض والجهل، لن يحدث هذا طالما وقفت بيننا خانة الديانة في بطاقة الهوية المصرية، ولن يحدث هذا طالما كان أبناء الشعب ينقسمون إلى أبناء المؤسسة العسكرية، وأبناء مؤسسة الشرطة، وأبناء مؤسسة القضاء، وأبناء الأطباء، وأبناء المحامين، وأبناء الشوارع.
الوطنية تأتي حينما تتجسد شعارات الثورة واقعاً ملموساً.. هل لازال أحدنا يتذكر تلك الشعارات؟
عيش، حرية، عدالة إجتماعية
المجد للثورة، المجد للشهداء، المجد للوطن