محمد صالح يكتب: قناة ابن البلد

من حق مصر أن تفرح، من حق الشعب المصري أن يفرح، ومن حق الشعب أن يحس بنشوة انتصاره على الطبيعة من جديد، حيث تمكن من شق تفريعة جديدة للقناة القديمة التي شقها أجداده بدمائهم الزكية، حينما عمل الأجداد بالسخرة، وجُلبوا من قراهم بالقوة، وتحكم فيهم المستعمر والمستثمر ولم يمنحهم كسرة خبز أو شربة ماء. لقد مات الأجداد في حفر القناة بالآلاف، حصدهم الطاعون والجوع والعطش بعد القهر والاستعباد والذل والظلم، وحينما انتهى المستعمر المستثمر من مشروعه التاريخي جاء بأصدقائه من الصفوة والنخبة وعلية القوم للاحتفال بالمشروع المشترك، فدشن الخديوي أوبرا جديدة في وسط القاهرة، وبنى يختا أسطوريا، وسراي الجزيرة التي تقف أسوارها حاجزا عاليا منيعا بين الزمالك وبولاق، بين الخديوي التركي والفلاح المصري، بين أولاد الناس وأولاد البلد. لم تكن القناة لنا، ولم يبنها المستعمر بسواعدنا حبا في سواد أعيننا، بل طمعا في موقعنا الاستراتيجي الذي نعجز عن الاستفادة منه لتخلفنا وجهلنا ومرضنا. وحينما قررنا أن نؤمم قناتنا المحفورة بسواعد ودماء أهالينا على أرضنا لتمر فيها مياه بحارنا قامت الدنيا ولم تقعد، وتكاتف المستعمر والمستثمر وصنيعتهما إسرائيل كي يؤدبوا ابن البلد الذي يرفع صوته مطالبا بحقوقه من ابن الناس وورثته، لكن النصر كان لابن البلد الغلبان صاحب الأرض والمياه والبحار والعرق والدم والوطن.

من حق مصر أن تفرح من جديد بشق تفريعة جديدة يشقها ابن البلد لصالح البلد، من حق مصر أن تزغرد لإنجاز عظيم يؤكد على قدرة الإنسان المصري وامتلاكه للإرادة التي تنحت الصخر وتشكله حينما تريد، لكن من حق مصر أن تعرف ماذا بعد؟ ماذا بعد شق التفريعة، واختصار وقت المرور.. ماذا عن ذلك الإقليم الجديد الذي يفترض أن تفوق أهميته أهمية شق القناة نفسها؟ من حق مصر، ومن حقنا أن نسأل عن أموال ضرائبنا التي لا تذهب حيث يجب أن تذهب، من واجب مصر ألا ينسيها فرحها عظم التحديات والمشكلات والمصاعب التي تنتظرها في اليوم التالي.

من حق الشعب أن يفرح، لكن الشعب يحتاج إلى أشياء أخرى إلى جانب الإنجاز العظيم الذي تعمّد القائمون عليه أن يكون عوضا باهظ الثمن عن السياسة، فالسياسة تحتاج زمنا كي تتحقق وتؤتي أكلها، بينما الإنجاز واضح للعيان، لكن الإنجاز يتبعه توقعات واستحقاقات ينتظرها الشعب الذي لازال يبحث عمن “يحنو عليه”، السياسة مستدامة، والإنجاز وقتي، السياسة طريق بينما الإنجاز مبنى، والشعب يريد الطريق قبل أن يريد المبني، الشعب يريد خارطة للطريق، ولا يريد سمكة يأكلها كل يوم في انتظار سمكة اليوم التالي، فالسمك ينتهي، لكن الصيد موجود ومستدام ومتاح طالما دامت البحار، وبحارنا لا حدود لها، تماما كما أن آفاق استثماراتنا، وآفاق تنميتنا لا حدود لها، فنحن أمة تعيش على ٦٪ من مساحة الأرض، وتمتلك إلى جانب الأرض، الإنسان والماء والطاقة فماذا ننتظر؟!

من حقنا أن نفرح، لكن من حقنا أن نسأل عن التعليم والصحة والبنية التحتية، من حقنا أن نسأل عن سبب تعطل حلول مشكلات القمامة، وعن سبب التسيب المروري المريع، وعن سبب التجاوزات الأمنية لحقوق الإنسان، من حقنا أن نسأل عن السبب في استمرار حبس ثورة يناير وراء قضبان النظام القديم الذي لا تزال فلوله تعبث بأمن الوطن، وتعيق مسيرة التقدم، من حقنا أن نسأل عن البرلمان وأين ومتى وكيف سيكون، من حقنا أن نسأل عن المستقبل الذي لا يمكن أن يرتبط بإسم شخص أياً ما كان، بل لابد وأن يرتبط باسم مصر، البقعة الغالية التي ننتمي إليها جميعا، ونضحي من أجلها.

من حق مصر أن تفرح، لكن من حقنا أن نقلق، دون أن يكون القلق خيانة، فالقلق نتيجة طبيعية لغياب الشفافية وغياب المعلومات والتحليلات العلمية والاقتصادية الدقيقة والسليمة.. من حقنا أن نقلق بينما ترتفع درجة حرارة الطنطنة الإعلامية إلى حدود تقترب من الفاشية المقيتة، بحيث يمكن أن تقع تحت طائلة القانون لعدم التزامك بواجب الفرح!

حينما كنا صغارا وكانت المدرسة تلزمنا بواجب مدرسي طويل في عطلة نصف العام، كنا ننقسم أربعة أقسام:

بعضنا كان ينجز الواجب المدرسي بالكامل في أول يومين من العطلة ويستجم ويفرح بعدها.

بعضنا كان ينتظم في أداء الواجب المدرسي وينظّمه على مدار العطلة كلها.

بعضنا كان ينتظر حتى اليومين الأخيرين من العطلة ويتجرع العلقم في نهاية الفرح والانبساط.

بعضنا كان لا يأبه بالواجب لأنه فاشل ساقط ولا يهتم بالدراسة من الأساس.

أتمنى ألا تلهينا الفرحة عن الواجب الضخم الذي لا زال ينتظرنا من أجل رفعة الوطن.

المجد للوطن.. المجد لشهداء الوطن ممن حفروا بسواعدهم العارية الفتية قناة نقلتنا من الماضي إلى الحاضر.. المجد لسواعد الوطن التي شقت الصحراء وفتحت لنا آفاقاً نحو المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top