(1)
ثوان ثقيلة مرت بينما كانت الطائرة الثانية تعبر من وراء البرج الثاني لمركز التجارة العالمي يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر عام ٢٠٠١، بعد الطائرة الأولى التي اصطدمت بالبرج الأول سارع البعض بتبني فكرة الخطأ الملاحي، لكن الطائرة الثانية وهي تمر على الهواء مباشرة بعدما كانت قنوات التلفزيون في جميع أنحاء العالم تنقل الصورة الحية للبرج الأول المحترق جرّاء اصطدام الطائرة الأولى به. أقول إنها ثوان ثقيلة، لأنني طالعت كل هذه المأساة الإنسانية العميقة المجنونة غير المسبوقة على الهواء مباشرة، حتى هيئ لي ساعتها أن الزمن يتحرك في اتجاهات مختلفة، وكأن الطائرة الثانية لم تصطدم، وكأنني أرغب في ألا تصطدم بأثر رجعي، أو أنها اصطدمت، أم لم تصطدم، أم هيئ لي أنها اصطدمت، لكنها لم تصطدم في تلك الثانية بالفعل، أم أن كل شئ من أوله لآخره كابوس غريب عن مكان بعيد. أحد التصورات المضحكة في تلك الثوان، أن الطائرة الثانية هي طائرة لإطفاء ما أضرمته الطائرة الأولى من نيران.
لكن الثواني مرت ووراءها الدقائق والساعات، وحينما ذهبت إلى عملي مساء ذلك اليوم صدمني أن البعض يتعامل مع ذلك الحادث الجلل بخفّة، وأحياناً بشماتة، ذلك الحادث الذي غيّر وعي الإنسان، وغيّر مسارات السياسة، والاقتصاد، والحرب، وحتى مسارات السلام، كان البعض لا يدرك في ذاك الوقت ماذا يحدث في الواقع.
(2)
كان من الممكن تحديد هوية القتلة، بل وهوية المجموعة التي نسّقت الحادث، وأشارت أصابع الاتهام إلى تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن، الذي قال عن منفذي الهجوم إنهم “فتية آمنوا بربهم”.. هكذا إذن، وبكل بساطة، مجرد فتية آمنوا بربهم، كما يؤمن أسامة بن لادن بربه، وكما يؤمن تنظيم القاعدة بربه، بل وكما يؤمن الأزهر مثلاً بربه. لم يكن هناك صلة واضحة بين “الشيخ” أسامة في كهوف أفغانستان وبين المجموعة، بل قل إن هناك فارقاً عمرياً وجغرافياً واجتماعياً ومعرفياً بين الشيخ ومنفذي العملية، لكنها الفكرة ما يجمعهم. لذلك كان من المضحك أن تنقض القوة الأمريكية المهيمنة على مقادير العالم، بكل كبريائها وشموخها وعنفوانها على بن لادن، دون أن تدرك أنه ليس شخصاً وإنما هو فكرة، والقاعدة ليست تنظيماً بل هي تجمع لأفكار، بل إن كل التنظيمات الإسلامية الضالعة في العنف ليست تنظيمات وإنما أفكار تجسّدت بفعل سياسات استعمارية رديئة مطلع القرن العشرين، حينما بذرت البذرة الخبيثة للإسلام السياسي، بغرض خلط السياسة بالدين، والدين بالسياسة، وبغرض تصفية حسابات سياسية بواسطة الدين، وتصفية حسابات دينية بواسطة السياسة.
(3)
حينما اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١ في مصر، واحتدم الصراع في الشارع بين المتظاهرين والنظام ممثلاً في داخلية العادلي، ومن ورائها مخابرات سليمان، ظهرت في عهد رئيس الوزراء الأسبق الفريق أحمد شفيق رواية مفادها أن الداخلية لم تكن الجهة التي أطلقت النار على المتظاهرين، وأن الرئيس المخلوع لم يكن صاحب قرار إطلاق الرصاص الحي، واستهداف القناصة لمتظاهرين، بينما كان المتهم هو حماس وحزب الله (في جملة واحدة هكذا: الوهابية والشيعة يتّحدان لزعزعة استقرار مصر)، ثم ظهرت كوادر إعلامية وفنية وطرحت خلاصة الإرهاصات الجهنمية لنظرية المؤامرة الكونية على مصر، وعلى الرئيس مبارك، وعلى المنطقة بما في ذلك استخدام الأرقام والرموز والشفرات وحتى العرائس (أبلة فاهيتا)، وانبرى المدافعون عن النظام، وأيتام مبارك، والمتعاطفون ممن افتقدوا “الأمن” و”الاستقرار” داخل الكومباوندات وفي الأحياء الجديدة الراقية، ليتبنوا تلك النظريات ويكسبونها زخماً، ويطرحونها محل جدل إعلامي واجتماعي واسع.
في تلك الآونة ظهر تعبير الطرف الثالث، كأفضل حلحلة للوضع على الأرض، لأنه الطرف الخفي الغامض الذي يمكن أن يجعل من المتظاهرين شباباً أطهار، ومن الداخلية موظفين محترمين ملتزمين بالدفاع عن الشباب الأطهار، لكن “أولاد الحرام” هم من تدخلوا للوقيعة بين أبناء الشعب الواحد. ظهر هذا الطرف الثالث وكأن ملف حقوق الإنسان في الداخلية خال من الانتهاكات، وكأن الداخلية ليست سوى حمل وديع يخلو تاريخه من المساس بكرامة المواطنين، وكأنما أقسام الشرطة طوال فترة حكم العادلي لم يعذب فيها إنسان، ولم يقتل فيها تحت وطأة التعذيب مواطن واحد.
خرج الطرف الثالث من القمقم، ولم يعد. فالطرف الثالث هو من سرق مدرعة الجيش ودهس بها المتظاهرين في ماسبيرو، والطرف الثالث بالطبع هو من فقأ أعين المتظاهرين في محمد محمود ومنصور وهو بالتأكيد من تبول على المتظاهرين في أحداث مجلس الوزراء. والطرف الثالث يمكنه أن يتقمص أي من الطرفين، فهو تارة ما يرتدي زي المتظاهرين، وتارة ما تراه متخفياً في زي الداخلية أو حتى في زي الجيش. ثم بدأت نظرية الطرف الثالث بعد نجاحها في القاهرة في التغلغل في قضايا إقليمية كالصراع في العراق وليبيا وسوريا ثم الصراع في اليمن، حتى وصلت إلى صراع أوكرانيا.
(4)
عقب التدخل الروسي في سوريا منذ عام ونيف ظهرت أطراف رابعة وخامسة وسادسة، خاصة أن الأرض السورية الحبلى بالثورة كانت حبلى أيضاً بالحرب الأهلية والتدخلات الدولية المتشعبة والمعقدة التي جعلت من الجميع يحاربون الجميع، فالسعودية وقطر تحاربان النظام السوري، والنظام السوري يحارب المعارضة المعتدلة المسلحة، والمعارضة المعتدلة المسلحة تحارب تنظيم الدولة الإسلامية، والتحالف الدولي يحارب الدولة الإسلامية، والأكراد يحاربون الدولة الإسلامية، والجيش السوري الحر المدعوم من تركيا يحارب الأكراد، ويحارب نظام بشار الأسد، والأكراد يحاربون الأتراك، والأتراك يحاربون الأكراد مباشرة ومن خلال الجيش السوري الحر. الجميع يحارب الجميع في هذه المنطقة البائسة من العالم.
(5)
يوم أمس صرخ أحد عناصر القوات الخاصة في شرطة العاصمة التركية مولود ميرت ألطنطاش بينما استل مسدسه ليقتل السفير الروسي في أنقرة: \”نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما دمنا على قيد الحياة\”، \”لا تنسوا حلب، لا تنسوا سوريا\”، \”ما لم تكن بلادنا في أمان فإنكم أنتم أيضاً لن تتذوقوه\”، \”الله أكبر\”.
لم تكن تلك الكلمات صادرة عن شخص مولود ميرت ألطنطاش، وإنما عن فكر القاعدة، فكر الوهابية، فكر ابن تيمية الذي تبناه محمد بن عبد الوهاب، وصنع به كل هذه الأعاجيب. لقد قتل القاتل في موقع الحادث، وكان يسعى إلى الانتحار دون أن يكون ذلك أمراً جديداً علينا، فالهجمات الانتحارية أصبحت روتيناً يومياً يمكن أن نشاهده في أي بقعة من بقاع الأرض. ولم يعد مولود ميرت ألطنطاش يحتاج إلى تنظيم “إسلامي” كي يتحرك من خلاله، فإنسان ما بعد الحادي عشر من سبتمبر المبرمج على القتل، والذي تربى في ظل الثقافة الأمريكية العنيفة السائدة في العالم، التي دعمت كافة التنظيمات الإرهابية وشاركت في صناعة وهم \”الخلافة الإسلامية\”، جزءا من القنبلة لا حاملاً للمسدس والبندقية أو المدفع. أصبح القاتل هو أداة القتل، أي أنه يمارس الجريمة ويمحو نفسه من الوجود في نفس اللحظة، فيبقى الفعل ويختفي الفاعل. هذه ثقافة المخابرات الأمريكية التي عملت منذ السبعينيات على تركيع منطقة الشرق الأوسط، وإخضاعه بالكامل لسلطتها إثر فشل تجربة ناصر والقومية العربية.
لا تبدو مجريات الأحداث في سوريا قابلة للتكهن، حتى بعد تحرير حلب، فهناك التحالف وحربه في الموصل، وهناك الأكراد ومن ورائهم الولايات المتحدة الأمريكية وحربهم في الرقة، وهناك الجيش السوري الحر المدعوم من تركيا وسيطرته على الشمال السوري، وهناك قبل كل هذا النظام السوري الذي عاد ليسيطر على الدولة السورية من جديد، بمساعدة كل من روسيا وإيران، اللتين تظن أمريكا أنها استدرجتهم إلى مستنقع سوري، بينما تظنان أنهما تطردان “الشيطان الأكبر” من المنطقة لحساب ممر استراتيچي لإيران نحو المتوسط، ووجود روسي عسكري نافذ في شرق المتوسط. وفي هذه المعمعة توجد أطراف ثالثة ورابعة وخامسة تحركهم أفكار طائفية وعرقية.
قتل السفير وقاتله في نفس اللحظة، لكن حياتهما ومقتلهما أصبحتا تحت الأضواء لكون الضحية سفيرا لدولة محورية مثل روسيا، ولكون الحادثة وقعت أثناء فعالية ثقافية وسط عاصمة لدولة محورية مثل تركيا، في نفس الوقت يقتل يومياً عشرات من الضحايا من الأطفال والنساء والعجائز والمقاتلين في كل بقعة من بقاع الشرق الأوسط اللعين، لكننا لا نعرف أسمائهم ولا صفاتهم ولا طريقة قتلهم. ما يقتل هذا وهؤلاء هو الفكرة لا الأشخاص، سوف تجئ وتذهب الأشخاص، وتتعدد الأطراف الثالثة والرابعة والخامسة، لكن المحرّك الأساسي لماكينة القتل في الشرق الأوسط هي الفكرة، ولا شئ سوى الفكرة.