محمد صالح يكتب: ضربة في عمق المواطنة


العمل الإرهابي الخسيس الذي طال عمق الشعب المصري يوم أمس لم يكن موجهاً للأقباط فحسب، بل هو موجه لعمق وعي الإنسان المصري. ضربة موجعة في وسط القاهرة على بعد أمتار من حرم البطريركية الأرثوذكسية حيث مقر البابوية بكل ما يحمله من معنى وقيمة مجتمعية وسياسية وتاريخية، تعد الضربة تغيّراً نوعياً في سلوك الإرهاب المتسرب إلى عمق العاصمة المصرية بعدما عجز الأمن عن محاصرته في سيناء وجنوب وغرب البلاد، ففي جميع العمليات الإرهابية السابقة كان المستهدف كمائن أمنية، أو شخصيات عامة ذات صلة بالقضاء، أو شخصيات سياسية بارزة. اليوم يهاجم الإرهاب الإنسان المصري المواطن الشريف الأعزل، لكنه يهاجم الوطن في أضعف مناطقه الشائكة التي لا تريد الدولة الخوض فيها، حيث الفتنة الطائفية وحيث الأسئلة الصريحة الواضحة التي تعجز الدولة عن الإجابة عنها. يهاجم الإرهاب الدولة في عقر دار المادة الثانية من الدستور. يطرح الإرهاب على الشعب المصري سؤالاً يخشى الشعب طرحه على نفسه: هل مصر دولة إسلامية؟ أم دولة دينها الإسلام يقطنها مسيحيون؟ أم دولة ديمقراطية حديثة يقطنها مواطنون بصرف النظر عن ديانتهم وأعراقهم؟
يهاجم الإرهاب الكنيسة لا المسجد، ويقتل المسيحيين لا المسلمين، حتى يطرح المسيحيون تلك الأسئلة وأسئلة أخرى مؤجلة على الدولة المصرية حول المواطنة والحق في إنشاء دور العبادة والمساواة الكاملة في الحقوق السياسية والاجتماعية وحرية العقيدة بالمعنى الفعلي للكلمة بما تعنيه الكلمة من حرية اعتناق الأديان ومدنية الأحوال الشخصية بل وحرية التبشير أيضاً طالما تترك الدولة الحبل على الغارب لأصوات المآذن التي تصدح فجر كل يوم في جميع أنحاء الجمهورية بآذان الفجر وتترك حرية إنشاء المساجد والزوايا داخل المصالح الحكومية ووسائل المواصلات وفي الطرقات.
لقد تخلّصنا من الأخوان لكننا لم نتخلص من إرثهم ويبدو ذلك بعيد المنال لسبب بسيط: أننا لازلنا في دائرة الفعل ورد الفعل، لازلنا نحارب الإرهاب بالعضلات والحلول الأمنية دون أن نعي أن الحرب الحقيقية على الإرهاب إنما تأتي من التربية والتعليم والثقافة، وتأتي من إزاحة الدين من الدولة إلى مكانه الطبيعي: المسجد والكنيسة والمعبد والبيت والقلب. نعم، فالدين والمعتقد محلهما القلب، ولا شئ سواه، فأما ما خرج عن القلب إلى حيز السياسة كي يصبح أداة سياسية فلا مصير له سوى ذلك المصير الأسود.. الإرهاب والتطرف والظلام الذي لا يعرف نوراً… في الوقت الذي تسعى فيه الديانات جميعاً إلى النور الإلهي المطلق الذي يبدد ظلام القلوب. تخلّصنا من الأخوان ولم نتخلص من براثنهم التي أمسكوا من خلالها المجتمع المصري، تخلّصنا من الأخوان لكننا لم نتخلص من كل مظاهر وجودهم حولنا في المجتمع. لازالت قطاعات من المجتمع في الصعيد تلفظ المسيحيين وتهجّرهم وتحرق منازلهم والدولة لا تحرّك ساكناً، ولازالت قطاعات من المجتمع ترفض مصافحة المسيحين أو تهنئتهم بأعيادهم أو حتى تعيينهم في بعض الوظائف أو التعامل معهم بالأساس، لازالت قطاعات من شعبنا تطلق عليهم لفظة “النصارى”، والشعب المصري الذي تعوّد على كل تلك المظاهر يجد في ذلك استثناء لا قاعدة، ويجد في ذلك شطحات من بعض المتطرفين دون أن يسأل نفسه سؤالاً: هل يقبل أن تتزوج ابنته من مسيحي؟ أو هل يقبل أن يتحول إبنه إلى الديانة المسيحية رجلاً عقب نضوجه وبحثه عن الحقيقة؟
هذا هو السؤآل الحقيقي الذي يطرحه علينا حادث الأمس.. هل نحن دولة أم “عنصرين للأمة” و”أخوة مسيحين” و”أخوة مسلمين”.. هل نحن شعب واحد أم شعبين؟!
لكن ذلك هو الشق الطائفي من الحادث. هناك شق آخر يضرب في عمق المؤسسة الدينية ومؤسسة الدولة ومؤسسة الإعلام.. فالقبطي البسيط الذي رأى أشلاء الجثث واشتم رائحة الدم الخائنة المهيجة لم يكن غضبه موجهاً نحو المسلمين فحسب، وإنما كان موجهاً أيضاً إلى القيادات الكنسية التي تمالئ الدولة ولا تترك للمسيحيين حرية الرد بالعنف على العنف والثأر لسنوات من التفرقة، المؤسسة التي تؤكد على أن الدولة فوق الكنيسة، وتتحالف مع الدولة حتى ولو كان ذلك ضد أبنائها وحقوقهم السياسية. المؤسسة التي تسيطر على جميع أبنائها وتمنع خروجهم من حظيرة الرب إلى رحابة المجتمع، وتحاول أن تحميهم بذلك من شرور أنفسهم ومن شرور التطرف والأسلمة خارج أسوار الكنيسة وشرور المواجهة مع الطائفية التي أصبحت على عتبات أبوابهم وتطرقها بكل عنف بعدما اختارت الكنيسة تأييد الدولة تأييداً مطلقاً في إزاحتها للأخوان والتخلص منهم. والقبطي الذي سمع صوت القنبلة المهول والمرعب لم يعد يرغب في سماع صوت لميس الحديدي أو أي من الإعلاميين، لم يعد يريد أن يرى أي كاميرات أو تصوير أو أي تنظيرات أو تحليلات عن الوضع الأمني والسياسي والعسكري.. إنه يرى حربه الآن وهنا وليست هناك فيما بعد في سيناء وليبيا وسوريا والعراق. فالحرب بالنسبة له هي ما يراه ماثلاً أمامه، وليس لديه استعداد أن يرى أو يسمع أي من أبواق الإعلام الرسمية، فهم يكذبون ويرى هو ذلك رأي العين بعدما ضرب الإرهاب استقراره وأمنه في مقتل… وذلك هو السؤال التالي الذي يطرحه على نفسه: ما الذي أصبح يفرّقنا اليوم عن سوريا والعراق بعد حادث الأمس؟! وما العائد الذي نحصل عليه من تحملنا مشاق العيش والارتفاع الجنوني لأسعار السلع تحت شعار “كي لا نصبح مثل العراق وسوريا”؟
لابد على الدولة أن تخرج من دائرة الفعل ورد الفعل إلى دائرة استراتيجية واضحة للمستقبل، وعلى الدولة أن تحدد ما إذا كانت مدنية أم غير مدنية، على أساس ذلك يتعين على الدولة أن تصوغ علاقتها بالمواطن بصرف النظر عن ديانته (ما يحتّم أن تحذف خانة الديانة من جميع المستندات الحكومية الآن وللأبد) إذا كانت تسعى إلى دولة “مدنية” “ديمقراطية” ودولة مواطنة حقيقية، وعلى الدولة أن ترسم سياسات للتعليم والثقافة والفنون تتناسق مع الوجه الحضاري للدولة المصرية أقدم دول الحضارة البشرية إذا ما كانت تريد أن تخرج من دائرة “الإسلام” و”المسيحية” و”عنصري الأمة” والأحضان السمجة المتبادلة التي تعمّق الأزمة ولا تحلها، وتؤجل الأسئلة ولا تجيب عليها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top