محمد صالح يكتب: دموع موسكو والعربة الأخيرة

لا شئ يحدث مصادفةً…

في العام ١٩٨٧ وبينما أستعد للنوم، كان قدري أن أرى درية شرف الدين (لم تكن قد حصلت على درجة الدكتوراه بعد) في برنامج نادي السينما، تعرض فيلما روسيا مهما من إنتاج عام ١٩٧٩، حصل ذلك الفيلم على جائزة الأوسكار تلك السنة، اسم الفيلم: \”موسكو لا تؤمن بالدموع”.. خلد جميع أهل البيت إلى النوم، ولم يشاركني أحد رؤية هذا الفيلم، تأثرت بالفيلم دون أن أذكر شيئا من محتواه على الإطلاق، تذكرت تلك الحالة \”الشيوعية\” الحمراء، المباني الضخمة، والشقق المتواضعة.. الثلج الأبيض ناصع البياض، الاتحاد السوڤيتي ومدينة موسكو \”البعيدة جداً\” (خيل إلي آنذاك أن موسكو تبعد عن القاهرة مثل سنغافورة أو يزيد).. لم يكن هناك في ذلك الوقت ما يمكن أن يشير من قريب أو من بعيد إلى ذلك التقارب الذي سيحدث بيني وبين زميلي في كلية الهندسة، الشيوعي الذي يستمع (بالصدفة) إلى الموسيقى الكلاسيكية، كذلك لم يكن هناك ما ينبئ عن دخولي دوائر اليسار في كلية الهندسة جامعة عين شمس، الدوائر المعنية بقضايا السياسة والثقافة والفنون.. كذلك لم يكن هناك أي بادرة تشي  بتعارفي في تلك الفترة بالذات على شيوعية رقيقة داخل أروقة المركز الثقافي السوڤيتي يوم الثلاثاء، حيث كانوا يعرضون فيلما روسيا لا أذكره.. عالم جديد ولجته ولم أكن أدرك أنه سوف يصبح عالمي فيما بعد.. تعلمت الروسية، بعدما رحلت حبيبتي الشيوعية لتدرس في الاتحاد السوڤيتي، كعادة قصص الحب الرومانسية كان الحلم والأمل أن نلتقي فيما بعد هناك في الاتحاد السوڤيتي حيث الحرية، والخلاص.. لا حريتنا وخلاصنا فحسب، بل حرية وخلاص البشرية من وحش الاستغلال والأنانية والطفيلية والجشع.. من خلال الشيوعية المثالية التي كان قدرنا أن نتعرف عليها من أجمل وأرق بواباتها، بوابة الفن والثقافة.. كنا غرباء عن بقية الرفقاء ممن امتطوا الشيوعية والاتحاد السوڤيتي لأغراض طفيلية مادية، واشتروا وباعوا وصالوا وجالوا تحت شعارات براقة طنانة عن البروليتاريا والشغيلة والكومسومول، كان الاتحاد السوڤيتي الذي عرفناه اتحاد سوڤيتي آخر، ظل بالنسبة لنا كذلك حتى اللحظة. كان المكان الذي شاهدنا فيه عروض المسرح الدرامي والأوبرا والباليه ومسرح العرائس، المكان الذي تعرفنا فيه على جغرافيا “الجريمة والعقاب” في مدينة بطرسبرغ، المكان الذي قضينا فيه بين جدران متحف الإرميتاچ والمتحف الروسي سنوات طويلة نتعلم ونرى ونغوص ما استطعنا في ذلك العالم الرائع البديع.

اعتزلت المصريين والعرب ست سنوات من الدراسة في لينينجراد التي تحولت إلى بطرسبرغ، في الاتحاد السوڤيتي الذي تحول إلى روسيا، كنت ضمن دفعة أخيرة من طلبة العالم الثالث ممن يدرسون على نفقة الحكومة السوڤيتية، وصلت إلى الاتحاد السوڤيتي عام ١٩٩٠، وفي عام ١٩٩١ لم يعد هناك اتحاد سوڤيتي ولم تعد هناك منح دراسية.

انتهيت من الدراسة وعدت للقاهرة، لتقذفني الأقدار مطلع الألفية الجديدة للعمل مترجما لڤلاديمير مينشوڤ، وڤيرا آلينتوڤا.. المخرج وبطلة فيلم \”موسكو لا تؤمن بالدموع\”، بعد مرور عقدين من المرة الأولى التي شاهدت فيها هذا الفيلم في برنامج درية شرف الدين.. الفيلم الذي رأيته آنذاك ولم أستوعبه جيدا، لم أكن أعرف الروسية حينها، الآن أصبحت أجيدها.. لكن لم يكن ذلك وحده ما ينقصني، كان هناك عربات كثيرة يجب أن تفوتني كي أستوعب هذا الفيلم.. مر عقد من الزمان حتى كان القدر يخبئ لي فرصة جديدة في ٢٠١٤ لمقابلة ڤلاديمير مينشوڤ للمرة الثانية حينما جاء رئيسا للجنة تحكيم مهرجان الأقصر للسينما الأوروبية، عملت مترجما له، وشاهدت فيلم “موسكو لا تؤمن بالدموع” للمرة الثالثة أو الرابعة في حياتي، لتكون المرة الأكثر استيعابا.. فقد تغلغل الحنين الذي اصطبغ به الفيلم إلى أعماق أنسجتي، بدا لي الفيلم بعد تلك السنوات فيلما إنسانيا شاعريا عميقاً، يتحدث بالأساس عن الفرص الضائعة، عن تلك الفرص التي نهدرها بأيدينا ثم نبحث عنها فيما بعد حينما يفوت الأوان، هكذا كانت الشيوعية، وهكذا كانت حبيبتي التي سافرت من أجلها، وهكذا كانت ثورة يناير، وكثير من العربات الأخيرة التي دائما ما تفوتنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top