حينما اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير، واحتدم الصراع في الشارع بين المتظاهرين والنظام ممثلا في داخلية العادلي، ومن ورائها مخابرات سليمان، ظهرت في عهد رئيس الوزراء الأسبق الفريق أحمد شفيق رواية مفادها أن الداخلية لم تكن الجهة التي أطلقت النار على المتظاهرين، وأن الرئيس المخلوع لم يكن صاحب قرار إطلاق الرصاص الحي، واستهداف القناصة لمتظاهرين، بينما كان المتهم هو حماس وحزب الله (في جملة واحدة هكذا: الوهابية والشيعة يتّحدان لزعزعة استقرار مصر)، ثم ظهرت كوادر إعلامية وفنية وطرحت خلاصة الإرهاصات الجهنمية لنظرية المؤامرة الكونية على مصر، وعلى الرئيس مبارك، وعلى المنطقة بما في ذلك استخدام الأرقام والرموز والشفرات وحتى العرائس (أبلة فاهيتا)، وانبرى المدافعون عن النظام، وأيتام مبارك، والمتعاطفون ممن افتقدوا “الأمن” و”الاستقرار” داخل الكومباوندات وفي الأحياء الجديدة الراقية، ليتبنوا تلك النظريات ويكسبونها زخماً، ويطرحونها محل جدل إعلامي واجتماعي واسع.
بالتوازي جاءت شهادات ملفقة ومزورة تختلف في درجة كذبها وتلفيقها، إلى جانب كوكبة من المحللين والمنظرين، كي تكسب النظريات التآمرية رسوخها، وتؤكد على أن الثورة مؤامرة، وأن الجميع عملاء وخونة بصرف النظر عن الوضع المتردي للتعليم والصحة والبنية التحتية والاقتصاد عشية الثورة، بدا الأمر وكأن مبارك كان يدير دولة من دول العالم الأول، أو دولة من دول الخليج العربي الغنية بالنفط، وأن الجواسيس والعملاء حرضوا الشعب الذي يعيش في الرخاء والرفاهية والاستقرار كي يخرج فقط من أجل زعزعة استقرار المنطقة لمصلحة قوى أجنبية.
في تلك الآونة ظهر تعبير الطرف الثالث، كأفضل حلحلة للوضع على الأرض، لأنه الطرف الخفي الغامض الذي يمكن أن يجعل من المتظاهرين شبابا أطهار، ومن الداخلية موظفين محترمين ملتزمين بالدفاع عن الشباب الأطهار، لكن “أولاد الحرام” هم من تدخلوا للوقيعة بين أبناء الشعب الواحد.. ظهر هذا الطرف الثالث وكأن ملف حقوق الإنسان في الداخلية خال من الانتهاكات، وكأن الداخلية ليست سوى حمل وديع يخلو تاريخه من المساس بكرامة المواطنين، وكأنما أقسام الشرطة طوال فترة حكم العادلي لم يعذب فيها إنسان، ولم يقتل فيها -تحت وطأة التعذيب- مواطن واحد.
خرج الطرف الثالث من القمقم، ولم يعد. فالطرف الثالث هو من سرق مدرعة الجيش ودهس بها المتظاهرين في ماسبيرو، والطرف الثالث بالطبع هو من فقأ أعين المتظاهرين في محمد محمود ومنصور وهو بالتأكيد من تبول على المتظاهرين في أحداث مجلس الوزراء. والطرف الثالث يمكنه أن يتقمص أي من الطرفين، فهو تارة ما يرتدي زي المتظاهرين، وتارة ما تراه متخفيا في زي الداخلية أو حتى في زي الجيش. ثم بدأت نظرية الطرف الثالث بعد نجاحها في القاهرة في التغلغل في قضايا إقليمية كالصراع في العراق وليبيا وسوريا ثم الصراع في اليمن، حتى وصلت إلى صراع أوكرانيا.
مع الضربات “الغبية” للروس في سوريا، التي لا تفرق بين عدو أو حبيب في الجماعات الإسلامية المتحاربة في سوريا والعراق، ظهرت أطراف رابعة وخامسة وسادسة، ودخلت لعبة “الفوضى الخلاقة” مرحلة جديدة من الصراع لم تسلم منه الديمقراطية التركية التي سمحت لأراضيها أن تكون المعبر الرئيسي للمجاهدين في سوريا والعراق، فأضحت ضحية لعمل إرهابي كبير راح ضحيته ١٢٨ قتيلا في تفجيري أنقرة مؤخراً. أتى ذلك مباشرة بعد إعلان حزب العمال الكردستاني السبت ١٠ أكتوبر تعليق عملياته للسماح بإجراء انتخابات نزيهة في الأول من نوڤمبر. تشير المصادر الأمنية التركية مبدئياً إلى مسؤولية تنظيم الدولة الإسلامية عن التفجيرين، لكن التنظيم نفسه ليس كتلة واحدة منظمة، ثم إن التنظيم يتضمن داخله عناصر من تنظيمات أخرى انضمت تحت لواء الدولة الإسلامية، وأخرى تخترق التنظيم (أشارت الأنباء مؤخرا إلى إعدام التنظيم لخمسين من عناصره لاشتباهه بضلوعهم في أنشطة تجسس). كذلك فإن الدولة الواقعة تحت سيطرة حزب العدالة والتنمية ذو النكهة الأخوانية يمكن أن تكون قد ساهمت ولو من بعيد من خلال أحد عناصر الأخوان في تفجير كهذا. لا يبتعد عن الشبهات الأكراد أنفسهم لتسخين الوضع بعدما طفرت قضيتهم لتشغل الأولوية في الملف التركي والسوري وقبلهما العراقي. ومما لا شك فيه، وانخراطا في نظريات أكثر تآمرية فإن المخابرات المركزية الأمريكية التي فقدت السيطرة على حلفائها في سوريا وقبلها الحلفاء في داعش وقبلها في أفغانستان قد تكون لها بصمة ما في تلك التفجيرات.. ثم ماذا عن المخابرات الروسية؟
لا أحد يعرف.. ولن يعرف أحد، فعالم ما بعد الحادي عشر من سبتمبر لم يعد يعرف فيه أحد كل شئ، حيث أصبح الإنسان المبرمج على القتل، والذي تربى في ظل الثقافة الأمريكية العنيفة السائدة في العالم، التي دعمت كافة التنظيمات الإرهابية وشاركت في صناعة وهم “الخلافة الإسلامية”، جزء من القنبلة لا حاملا للبندقية أو المدفع.. أصبح القاتل هو أداة القتل، أي أنه يمارس الجريمة ويمحو نفسه من الوجود في نفس اللحظة، فيبقى الفعل ويختفي الفاعل. هذه ثقافة المخابرات الأمريكية التي عملت منذ السبعينيات على تركيع منطقة الشرق الأوسط، وإخضاعه بالكامل لسلطتها إثر فشل تجربة ناصر والقومية العربية.
لكن مجريات الأحداث عقب التدخل الروسي في الملف السوري لم تعد قابلة للتكهن، فهناك من يقول إن روسيا قد أثبتت أن الحرب على داعش، وضربات التحالف ليست سوى هجوم صوري على حليف قديم، بعد أن وجهت القوات الروسية ضربات موجعة للتنظيم وفاضحة للتحالف، وهناك من يقول إن أمريكا قد استدرجت روسيا لمستنقع سوري يشبه مستنقع أفغانستان الذي أودى بحياة الاتحاد السوڤيتي.. إنه الطرف الثالث من جديد.. لا أحد يعرف..ولن يعرف أحد.
لقد صرح الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين في ١١ أكتوبر الجاري تعليقا عن إطلاق بلاده صواريخ من بحر قزوين بأن: \”المخابرات المركزية الأمريكية إحدى أفضل أجهزة المخابرات في العالم، فدعونا لا نلقي عليها الحجارة. هي إحدى أقوى الأجهزة الاستخباراتية، لكنها لا تعرف كل شئ، ولا يتعيّن عليها أن تعرف كل شئ\”