اليوم أعلن ولي النعم مارك تسوكيربيرغ رضي الله عنه وأرضاه (وهو فعلا أرضاه بالقوي وبالعبيط وبكل عملات الدنيا!).. اليوم أعلن ولي نعمتنا “الفيس بوك” إن هناك مليار مستخدم لموقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك” يتصفحونه كل يوم، كما أضاف أن ذلك ليس الهدف، بل الهدف هو ربط جميع الناس ببعضها.
بدت تلك المهمة مستحيلة منذ خمسين عاماً، ثم بدت صعبة منذ عشرين عاماً، وأضحت معقدة منذ عشرة أعوام، لكن مارك تسوكيربيرغ جعلها متاحة منذ سبعة أعوام فقط، ليرسي دعائم الموقع والشركة والمفهوم “فيس بوك”.. لتتحول تلك الحياة الافتراضية البديعة والمعقدة جزء مهما من حياتنا ولتصبح الحياة بدونه صعبة إن لم تكن مستحيلة. أصبح سؤال: “عندك فيس بوك؟” يشبه سؤال: “حضرتك ساكن فين؟”، أو “ممكن نمرة تليفونك!”. أصبح الفيس بوك هو جزء من التعريف الشخصي للإنسان، وكيف لا وهو لا يتضمن فقط الصوت والصورة والڤيديو، بل يتضمن الرؤى والمواقف من الحياة. يكفي المرء أن يتصفح أسبوعاً من التدوينات القصيرة أو حتى نوعية الأخبار والصور والڤيديوهات التي يقوم الصديق الجديد بمشاركتها مع أصدقائه، حتى يعرف الإنسان، وموقفه السياسي من الوضع الراهن، وكيف يفكر، وموقفه الإنساني من الحياة والكون. كذلك قد تطيح عبارة قالها صديق جديد تعليقاً على حدث من الأحداث بعلاقتكما على الفيس بوك وربما في الحياة، كأن يدين أو يؤيد الثورة أو يدين أو يؤيد فض رابعة، أو يدين أو يؤيد السيسي، أو يدين أو يؤيد البرادعي.. كلها أصبحت محكات رئيسية ومفاصل حاكمة في العلاقات الإنسانية، وحتى روابط الدم. أصبح الفيس بوك ضيفاً مقيماً في داخل الأسرة الواحدة، فتجد العائلة منكبّة بجميع أفرادها كباراً وصغاراً على هواتفهم المحمولة بحثاً عن خبر مثير، أو عن تدوينة عاطفية، أو عن رد على سؤال، أصبح الفيس بوك مكاناً لعقد صداقات جديدة لم نكن نتمكن من عقدها في السابق، فتحت الشاشة ولوحة المفاتيح أمامنا أفقاً لا ينتهي من القدرة على المغامرة “الافتراضية”، وأصبح اقتحام الحياة الشخصية، والحديث مع مجهولين متاحا بل ومستحبا، أصبح التعارف سهلا بين الفتيان والفتيات فأسقطت جميع التابوهات الدينية والتقليدية، أصبح تصفح صور النجوم والممثلين والممثلات والشخصيات العامة والعائلات والأبناء والأحداث الجارية متاحا، بل أصبح التعليق والاعجاب ومشاركة تلك الصور متاحا.
لم يتوقف الفيس بوك عند هذا الحد في اختراقه للحدود الشخصية والعائلية والأمنية والسياسة والقومية والإقليمية، بل شارك في صنع الأحداث من خلال إمكانية خلق مجموعات تتفق في الاهتمامات أو الرؤى أو المواقف السياسية، فأصبح تكوين “الأحزاب” وإطلاق “المظاهرات” على المستوى الافتراضي متاحاً، بل وتحولت بعض تلك المجموعات إلى أحداث على الأرض فالتقى البشر، وقامت الثورات، وتعرّف كثيرون على أنفسهم قبل أن يتعرفوا على آخرين، تعرفوا على الوضع في الدولة وفي العالم من خلال الفيس بوك، لم يكن الفيس بوك هو المبادر وصانع الحدث، بل كان الوعاء الذي سمح للحدث بأن يختمر، لذلك تبدو الآراء التي تدين الفيس بوك بوصفه مؤامرة وأداة مخابراتية تتبع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ساذجة ولا محل لها من الإعراب، ففي نهاية المطاف من يصنع الحدث هو الإنسان، وما يدفع الإنسان للحدث هو المشكلات الإنسانية التي لا تجد لها وسيلة للتعبير سوى الرفض والخروج وإعلان هذا الرفض، مشكلات مثل الفقر والتعذيب والفساد والظلم، مشكلات الإنسان في كل مكان وزمان، يعبّر عنها، ويحاول البحث عن حلول لها، فيبتزّه المسئولون ويخدرونه بمعسول الكلام الذي ينطلق من خلال الوسائل الإعلامية الرسمية للدولة، الميكروفون الرسمي للدولة إن شئت. لقد أصبح الفيس بوك بشكل من الأشكال الميكروفون الرسمي للشعوب والأفراد، وأصبحت الأفكار تتجسد من خلاله وتنتشر وتتضخّم بحجم جديتها وطرحها للمواضيع الأكثر إلحاحاً وطلباً للجماهير، فرأينا الثورات، والمعتقلين، ورأينا العنف الدموي، وقضايا التعذيب والقتل الوحشي، كما رأينا إلى جانب هذا وذاك جنساً، وهوامش موسّعة لتفاهات من مجتمعاتنا المريضة.. إن الفيس بوك ليس سوى وعاء ينضح بما تملأه به، فلك أن تملأه باللبن أو بالعسل أو تملأه بالخمر أو بالعلقم.
تبدو الميزة الأساسية في الفيس بوك كما أراها هي تعرية الأشياء والأشخاص، فكم من البشر رأيناهم وعاشرناهم واقتربنا منهم في الحياة الواقعية، ثم رأيناهم من وراء لوحة المفاتيح وأمام الشاشة ينفثون سُما زعافا مما يعتمل في نفوسهم المريضة، وكم من البشر ألفناهم منطويين صامتين، لنجدهم أمام لوحة المفاتيح ثواراً عاجزين عن التواصل مع العالم الواقعي بينما ينطلقون بكل شراسة وحمية في العالم الافتراضي، كذلك كم من البشر وجدوا أنفسهم من خلال الفيس بوك، وجدوا فرصاً للعمل، فرصاً للإبداع، فرصاً للسلوى، فرصاً للتعارف والترفيه والتسلية، فرصاً للزواج (لقد تشكلت خريطة اجتماعية جديدة من خلال الفيس بوك، وعقدت زواجات، وطلاقات، وخصومات استناداً لأنشطة على الفيس لوك)..
من هذا المنطلق يبدو حديث تسوكيربيرغ بشأن المليار مستخدم يومي على الفيس بوك كبداية لربط الناس ببعضها البعض منطقياً، فعلى المستوى البشري العام، يحتاج البشر في هذه اللحظة الحرجة من تطور البشرية إلى وعاء للعصف الذهني بهذا الحجم وهذا النوع، نحن نحتاج لأن نطرح أسئلة تهمّنا جميعاً، أسئلة عامة تخص العدالة الإنسانية، العدالة الاجتماعية، مصير الموارد الإنسانية، مستقبل البشرية. نحن نحتاج أن نعرف أين تذهب مليارات الدولارات التي تضخها الحكومات المركزية في البورصات لمنعها من السقوط، فتدخل تلك المليارات إلى جيوب خلفية خفية، نحن نحتاج أن نعرف ونواجه أنفسنا بحجم تجارة السلاح والمخدرات والبشر في العالم، كما نحتاج أن نعرف حجم الاستثمارات في مجال السلاح النووي والرؤوس النووية التي يمكن أن تدمر العالم بأكمله عدة مرات، نحتاج أن نعرف لماذا يدفع الشمال “المتقدم” نحو حروب وثورات وصراعات، ثم يعجز عن التعامل مع تبعاتها ممثلة في الهجرة غير الشرعية، وتدفق المهاجرين إلى أوروبا، وانتقالهم من دولة إلى دولة بينما تحاول أوروبا بالظهور بمظهر النبيل الطيب النقي، فتمنح اللجوء السياسي للبعض، وتمنعه عن البعض الآخر. نحن نحتاج أن نفهم أن ما نراه اليوم في أفريقيا والشرق الأوسط نتيجة طبيعية لما حدث في القرنين التاسع عشر والعشرين، وما استنزفته أوروبا وأمريكا ولازالت حتى اللحظة تستنزفه من موارد طبيعية وبشرية في أفريقيا والشرق الأوسط والأقصى دون أن يفكر أحد في أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم، وأن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومضاد له في الإتجاه..
إن الفيس بوك اليوم هو الوعاء الذي يسمح لنا ولو على المستوى الافتراضي بتطبيق قوانين الطاقة وطرح أسئلة وجودية بشأن الإنسان والموارد والمستقبل.