محمد صالح يكتب: العيار اللي مايصيبش

“لقد انتقلت السلطة الآن في تركيا إلى “مجلس السلام” الذي سوف يحافظ على أمن المواطنين. هكذا انطلقت الرصاصة الأولى وأغلقت الدبابات الطرق والجسور والمطار في اسطنبول، وأعلنت الأحكام العرفية وحظر التجوال. عيار طائش في الظلام دفع بملايين البشر لتكهنات ومخاوف وربما آمال وأحلام وتفسيرات بعضها يتعلق بخيالات عودة ثعلب المخابرات عمر سليمان في الحلقة الأخيرة من المسلسل في مشهد مؤثر مع يوسف شعبان، والعلاقة بين ما يحدث في تركيا والمؤامرة الكونية على مصر المستمرة منذ ثلاثة أعوام عقب ثورة الثلاثين من يونيو.

لكن السياسة ليست بهذه البساطة في دولة مثل تركيا حاولت منذ عقد من الزمان اللحاق بعضوية الاتحاد الأوروبي، ودولة فاعلة في حلف الناتو، تضم على أراضيها قاعدة أنجرليك التي شكلت نقطة انطلاق للعديد من الحملات العسكرية في الشرق الأوسط والعالم طوال عقود، وتستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية كمركز تخزين إقليمي، وكانت نقطة انطلاق طائرات التحالف الدولي لضرب القوات العراقية التي اجتاحت الكويت، وفرض حظر الطيران على شمال وجنوب العراق، وفي ٢٠١١ لقصف مواقع تنظيم القاعدة وحركة طالبان في أفغانستان. في يوليو ٢٠١٥ سمحت الحكومة التركية لواشنطن باستخدام القاعدة لمحاربة تنظيم داعش في سوريا بعد ٣ أيام من هجوم دام شنه التنظيم المتطرف داخل تركيا وأسفر عن ٣٣ قتيلاً.
٣٠ سبتمبر ٢٠١٥ بدأت روسيا الاتحادية عملياتها العسكرية داخل سوريا انطلاقاً من قاعدة حميمي، وهي العملية الأولى لروسيا خارج حدودها بعد انهيار الاتحاد السوڤيتي في ١٩٩١، في إطار هذه الحرب وبدعوى انتهاك المجال الجوي التركي أسقط سلاح الجو التركي المقاتلة سو٢٤ بالقرب من اللاذقية داخل الحدود السورية، وأصيب الطيار أثناء هبوطه بالمظلة برصاص مقاتلي المقاومة السورية، تسببت الحادثة في تقليص أو منع كافة عمليات التجارة الخارجية مع تركيا، ومنع تدفق البضائع التركية وفقاً لقائمة تضعها الحكومة الروسية، ومنع جلب أي عمالة تركية إلى أراضي روسيا الاتحادية. كذلك أعلنت الخارجية الروسية عن عدم ترحيبها بزيارة المواطنين الروس إلى تركيا بغرض السياحة بسبب “تصاعد التهديدات الإرهابية على أراضي الدولة التركية”، وعليه توقفت شركات السياحة عن بيع رحلات إلى تركيا بتوصية من الوكالة الفيدرالية الروسية للسياحة. توقفت روسيا عن منح المواطنين الأتراك حق الدخول إلى الأراضي الروسية بدون تأشيرات بدءاً من ١ يناير ٢٠١٦.
عسكرياً أعلنت وزارة الدفاع الروسية في ٢٤ نوڤمبر ٢٠١٥ في بيان لها عن أن حاملة الصواريخ “موسكو” التابعة لأسطول البحر الأسود وعلى متنها قاذفات الصواريخ المضادة للطائرات “فورت” سوف تتحرك نحو سواحل اللاذقية، لتصبح جميع الأهداف التي تهدد الطيران الروسي في مرماها. وفي ٢٦ نوڤمبر نشرت روسيا منصات إطلاق الصواريخ المضادة للطائرات إس ٤٠٠ (يصل مدى الصواريخ إلى ٤٠٠ كم) في قاعدة حميميم باللاذقية ما يمثل تهديداًحتمياً لطائرات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.
صرح أناتولي أنطونوف نائب وزير الدفاع الروسي في مؤتمر صحفي عقد في ديسمبر الماضي أن “عائدات الاتجار بالنفط من أهم تمويل أنشطة الإرهابيين في سوريا، وتبلغ عائداتهم قرابة ملياري دولار سنوياً، ويتم إنفاق هذه الأموال على تجنيد المرتزقة في كافة أنحاء الزعالم، وتسليحهم وتزويدهم بالمعدات اللازمة للعمليات الإرهابية”. كذلك شدد أنطونوف على أن “القيادة التركية العليا والرئيس رجب طيب أردوغان متورطون شخصياً في عمليات استخراج النفط السوري والعراقي وتهريبه إلى تركيا، وأضاف أن التدفقات المالية الناتجة عن الاتجار بالمشتقات النفطية لا توجه إلى زيارة ثروة القيادة السياسية فحسب، بل يعود جزء كبير من تلك الأموال بشكل أسلحة وذخيرة ومرتزقة جدد”.
في مايو الماضي أشارت المصادر إلى وجود خلافات أمريكية-تركية تقف حائلاً أمام تحرير مدينة الرقة عاصمة تنظيم داعش في سوريا، ففي أحد الاجتماعات المتوترة لحلف الناتو وضعت تركيا ڤيتو على إطلاق معركة الرقة بقوات يتقدمها الأكراد، قبل أن يلفت الأتراك نظر الحلف إلى أنهم (الأتراك) سوف “يمنعون استخدام القواعد العسكرية التركية، وسيقومون بمنع استخدام مجالهم الجوي لدعم أي تحرك عسكري ضد مصالحهم”
بعد هجومي باريس وبروكسل أدرك حلف الناتو ضرورة تعقب وهزيمة الإرهاب ممثلاً في داعش، ولكنه لم يتحرك جدياً بسبب الحدود التركية المفتوحة على داعش في سوريا والعراق، حتى أن أحد الديبلوماسيين الأمريكيين علق على الڤيتو التركي بقوله: “إن الأتراك هم من صنعوا داعش على نحو ما”. تركيا تعتبر قوات سوريا الديمقراطية الكتلة الساحقة التي تدعمها واشنطن في شمال سوريا بغرض تحرير الرقة مجموعات إرهابية تسعى لتكوين دولة مقلقة في الجنوب التركي، من هنا يأتي تلكأ القرار بشأن الرقة.
تظل مشكلة تحرير الرقة مشكلة قرار سياسي، فمصالح اللاعبين الكبار لم تتوصل بعد إلى صفقة تشمل الإقليم، وعلى الرغم من التراجع التركي والاعتذار لكل من روسيا وإسرائيل، والتراجع عن رحيل الأسد شرطاً للتسوية في سوريا، وموافقة إيران في اجتماع ڤيينا الأخير للمجموعة الدولية لدعم سوريا على إدراج تسمية “هيئة الحكم الانتقالي” بوصفها محطة يجب أن تعبر بها العملية الانتقالية في سوريا، تظل المسألة السورية مسألة معقدة بين العلاقات التركية الكردية، التركية الأمريكية، الكردية الأمريكية، الكردية الروسية (افتتاح مكتب تمثيل دبلوماسي للأكراد في موسكو أكتوبر ٢٠١٥)، الكردية العربية، العربية العربية (داعش والنصرة وأحرار الشام).
من هذا المنطلق يبدو أن التدخل الروسي في سوريا وتحديد وربما تسريب خرائط دقيقة لشبكات تهريب البترول والسلاح والمقاتلين المنخرطين في العمليات الإرهابية في الداخل السوري من الاستخبارات الحربية الروسية، وما أعقبه ذلك من هجمات في باريس وبروكسل وفي اسطنبول ذاتها، إضافة إلى حادثة نيس الإرهابية المريعة وتذمر أوروبا من التعنت والتلكأ التركي في حلحلة المسألة السورية، والقضاء على داعش والحرب على الإرهاب، وما يبدو من تورط يدّعيه الروس لأردوغان مع شبكات تهريب قد سبب إحراجاً لأوروبا التي تعاني من مشكلة تدفق اللاجئين، ومؤخراً بدء عمليات إرهابية في عمق أوروبا.
لن تتم إزاحة أردوغان بمعزل عن أمريكا وروسيا، ولا يبدو أن الولايات المتحدة وحلفاءها قادرون بعد اليوم على تأخير القضاء على داعش وكل من يتصل بها من قريب أو بعيد، خاصة وأن التنظيم قد أدى الدور المنوط به على أكمل وجه، وحان وقت التخلص من نفاياته.. تماماً كما حدث مع تنظيم القاعدة في أفغانستان.
قد لا يرحل أردوغان اليوم، وقد يبدو في أوج قوته وعناده السياسي، لكن ما حدث ليلة أمس يلقي بظلال كثيفة على طبيعة علمانية الدولة التركية، وما إذا كان أردوغان قد تمكن بالفعل من أخونة الدولة للحد الذي يستحيل معه بزوغ أي قوى علمانية وأي معارضة للحكم الإسلامي في تركيا لسنوات طويلة قادمة، خاصة وأن الجيش التركي “العلماني” قد تلقى ضربة قاصمة لا أتوقع أن يكون دوره فيما بعد سوى المشاهدة عن بعد.
يقولون بالعاملية المصرية: “العيار اللي ما يصيبش يدوش”
وما حدث ويحدث من صخب هائل في المشهد التركي على مدار ليلة عصيبة سوف يترك آثاراً لأعوام قادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top