إن رحلة البحث عن شرعية للنظام الحاكم لا يمكن أن تمرّ من خلال برلمان ينتقل أربعمائة من أعضائه بحافلات للقاء وزيرٍ بأحد الفنادق الخاصة بالقاهرة.
الشرعية تتوارى خجلاً حينما يعقب مساعد الوزير على كلام أحد النواب في البرلمان المصري بأن: “وزارته تصرف على البلاد منذ ٢٠١١، لأن خزانة الدولة كانت خاوية، بينما خزانة مؤسسته/وزارته (الموجودة خارج موازنة الدولة، وخارج أي رقابة أو إطار حكومي) كانت ملآنة\”، وكأن الدولة في واد، وتلك الوزارة/ذلك الكيان/تلك المؤسسة في واد آخر، وكأنها دولة أخرى شقيقة تشفق علينا فتنفّذ المشروعات، وتمد الطرق والكباري، وتحل المشكلات في جميع القطاعات بلا استثناء.. ما يدعو للتساؤل: ما دور الحكومة والسلطة التنفيذية إذاً؟ إذا كانت وزارة/مؤسسة واحدة تقوم بكل الأدوار المنوطة بالحكومة، فما الداعي للمصاريف الإضافية، أليس الأولى أن نلغي بقية الوزارات؟!
إن شرعية النظام الحاكم لا توجد في أروقة الأمم المتحدة، كما لا توجد في استقبال حاشد لرئيس الدولة ببيانات ودعوات رسمية من مقر البابوية وأبراشية نيويورك ونيو إنجلند، ولا في لقاء بين وزيري الخارجية المصري والإسرائيلي، ولا في لقاء مقتضب رمادي باهت مع الرئيس الروسي على هامش اجتماع العشرين في الصين.
شرعية النظام، وشرعية الرئيس المصري إنما تأتي من قدرته على رسم مستقبل الدولة (وليس شبه الدولة) استناداً إلى حاضرها وتاريخها، واستناداً إلى معطيات السياسة الدولية، وتفاعلات “السياسة” الداخلية.. بل قل إن الشرعية في وجود السياسة من الأساس لا في غيابها.
الشرعية في وجود إعلام قادر على نقل الصورة الحقيقية وليس الصورة التي نتمناها، الشرعية في حرية الإعلام أن يسأل ويسائل وربما يفضح ويعرّي، الشرعية في وجود تعليم جيد لكل أبناء الوطن على قدم المساواة، في وجود صحة وبنية تحتية ومواصلات عامة آدمية، الشرعية تأتي من إرساء دعائم الدولة الديمقراطية الحديثة كما يقول الدستور، وكما يصرّح دائماً رئيس الجمهورية نفسه.
إن نظاماً لا يعترف بداية بأي علاقة له باحتجاز مواطن إيطالي، ثم تقتل أجهزته مشتبه بهم، ويعود النظام ليعترف باحتجاز المواطن الإيطالي تحت ضغوط سياسية واقتصادية (دون أن نسمع أي حديث عمن قتلوا خطأً بلا محاكمة لمجرد الاشتباه!) هو نظام تصعب معه أعقد وأعتى وصفات التسويق وتحسين الصورة، إن نظاماً يهيم رئيسه ببلاده ويعترف بحبه لها في المحافل الدولية (وأنا مؤمن بصدقه تماماً) ليس نظاماً عملياً براجماتياً رشيداً يدرك مقام القول وضرورته، تماماً كما لا يدرك مكان صرف الأموال (بدليل اختصار حفر تفريعة القناة من ثلاث سنوات لسنة واحدة لرفع الحالة المعنوية للشعب بتكلفة ثلاثة مليار دولار، وتنتهي السنة ولا تأتي المليارات الثلاث، ولا نعلم اليوم من أي بنك يمكننا صرف “الحالة المعنوية” لتعيد لنا المليارات المهدرة!).
لكن، لابد علينا أن نعترف أن النظام الحالي راسخ ومستدام، ويكمن سر استدامته في خوف الشعب الشديد من أي تغيير قد يؤدي بالأمور إلى أسوأ من السئ، وأردأ من الردئ.
النظام راسخ فعلاً، ومن يقفون ضده لا يمثلون أكثر من النصف بأي حال من الأحوال.
لقد نزف الرئيس عبد الفتاح السيسي شعبية على مدار العامين الماضيين، نعم! لكنه لم ينزفها جميعاً، لازال من يحبونه، أو يخافون من رحيله، أو يرعبهم مصير “سوريا” و”العراق”، لازال كل هؤلاء أغلبية.. نعم لم تعد تلك أغلبية الـ ٨٠٪ والـ ٩٠٪، لكنها على الأقل ظلت حول الـ ٦٠٪ أو ربما الـ ٥٥٪، وهي ليست أغلبية بسيطة على أي حال من الأحوال، كذلك فإن الجانب الآخر منقسم على نفسه ومتشرذم فلا تجد فكراً جامعاً يجمعه، ولا فكرة يتوحد تحتها، أو قضية قومية واحدة يدافع عنها، فالإخوان عاجزون تماماً عن لمّ الشمل، وكذلك الإسلاميين، وكذا معسكر الثورة، ومعسكرات الليبرالية واليسار وغيرها. لا توجد كتلة واحدة تجمع هذه “المعارضة” لنظام السيسي. لذلك يجلس هو متربعاً على عرش السلطة بلا منازع.
لكن رسوخ النظام شئ، وقمعه وعنفه وانتهاكاته وفضائحه في مجال حقوق الإنسان شئ آخر، ولعل الحصول على قرض صندوق النقد الدولي سوف يحتّم على النظام ربما أن يتحرك نحو مزيد من الشفافية، ومزيد من عودة المجتمع المدني والمنظمات الأهلية إلى دورها. لا أحد يعلم!
إن رسوخ النظام داخلياً لا يعني شرعيته أمام العالم، فنظام بشار الأسد هو نظام شرعي بالكامل، إلا أنه فاقد للشرعية والأهلية والعقل والرشد معاً، لذلك تبدو محاولات النظام إهدار أموال كثيرة ومجهودات مضنية لتحسين صورته أمام العالم بمظاهرات مدفوعة من تجمعات دينية أمراً ساذجاً ينظر إليه العالم بابتسامة شفقة لا أكثر، تماماً كما نأتي بفرقة حسب الله لاستقبال السياح العائدين إلى مطاراتنا.. بينما نعجز عن تأمينهم، ونعجز عن الدعاية والتسويق كي تزداد أعدادهم، بل ونعجز عن توعية المواطنين “الشرفاء” كي لا يسرقوهم ولا ينصبون عليهم ولا يتحرشون بهم.
إن العالم وثورة اتصالاته تجعل من إعلامنا الستيناتي البائس أضحوكة سمجة لا مكان لها، ذلك أننا أخذنا المظهر الخارجي: الديكور، الماكياچ، التصوير، الصوت، بينما يتراوح المضمون بين المؤيدين بضراوة والمؤيدين المعتدلين والمؤيدين فقط.
كذلك الحال في البرلمان، وكذلك الحال في عموم الدولة، بينما جوهر الشرعية إنما في البحث عن المضامين لا عن الشكليات، طرح الرؤى والاختلاف بشأنها والعصف الذهني للوصول إلى أفضل الحلول.. جوهر الشرعية في السياسة، ولا يمكن أن يكون في غياب السياسة.
جوهر الشرعية هي ما يجب علينا البحث عنه، لا مظاهرها الساذجة.. جوهر القضايا لا مظهرها الخارجي هي ما يلزمنا في اللحظة الراهنة الحرجة.
جوهر الشرعية لا يمكن أن يتلخّص في “زفة بلدي”.