حدثت تلك القصة في شتاء عام ١٩٩٠، في السنة الأولى من دراستي بالاتحاد السوڤيتي، وكانت هناك أزمة في المواد الغذائية تؤثر علينا نحن الطلبة أكثر من أي فئة أخرى، لأن وقتنا لم يكن يسمح أن نقف في طوابير طويلة من أجل تلك المواد، وكنا نعود من معاهدنا بعد أن يكون المواطنون قد أفرغوا محلات المواد الغذائية عن آخرها، وجزء كبير من هذه الأزمة يعود إلى تصرفات المواطنين الذين يعيشون بنفسية الأزمة منذ الحرب العالمية الثانية، لذلك تجد الروسي ينزع إلى تخزين المواد الغذائية تحسبا للظروف. كذلك فقد كانت السوق السوداء تلتهم جزء كبيرا من البضاعة. كانت تقاليد تلك الحقبة تقتضي أن تتصرف على النحو التالي بالترتيب: تقف في أي طابور أولا بصرف النظر عن نوع البضاعة المباعة. تنتظر أن يقف وراءك أي شخص، حتى تكون قد أثبتت دورك على هذا النحو. في تلك اللحظة يمكنك أن تستعلم عن نوع البضاعة، ويتم ذلك بطريقين لا ثالث لهما، الأول أن تترك مكانك بعد أن تستأذن من خلفك بأن يحفظ لك الدور، وتذهب إلى بداية الطابور، لترى التفاصيل والمعلومات رأي العين، وتستعلم بنفسك من المصدر، وإما أن تستعلم من الشخص الواقف أمامك، ويكون الاستعلام بسؤالين: على ماذا تقف؟ أو ماذا يباع؟ ما حصة الشخص الواحد؟ وهكذا وفي ظل الظروف السابق ذكرها، كنت عائدا من الكونسيرڤاتوار بعد عناء يوم طويل، وبجانب المدينة الجامعية وجدت طابورا، فتصرفت كما يتصرف أي مواطن سوڤييتي شريف، ووقفت في الطابور أولا، ثم سألت عما يبيعون، فجاءتني الإجابة: صلصة طماطم وكم الحصة؟ ثلاثة في اليد الواحدة. ومع عدم حاجتي لصلصة الطماطم، أو حتى عدم التخيل في تلك اللحظة عما يمكن أن تمثله من ضرورة لحياتي، خصوصا إذا كان كل ما نمتلكه في تلك الأيام بغرفتنا في المدينة الجامعية هو بضعة أطباق، وحلة واحدة، وطاسة واحدة، ومواهبنا في مجال المطبخ لم تكن آنذاك تبتعد عن البيض المقلي بخطوات كبيرة.
مع كل ذلك قررت أن أقف في الطابور، لعل تلك الصلصة قد تنفع يوما. بعد نصف ساعة، توجهت إلى غرفتي وأنا أحمل في فخر تاريخي ثلاث عبوات من صلصة طماطم مستوردة من ألمانيا، في إطار معونة للاتحاد السوڤييتي العظيم، الدولة التي قهرت ألمانيا الفاشية، وأوقفت تقدمها نحو الشرق. في الغرفة جلس أمام البيانو جاري في الغرفة ماكسيم، يذاكر دراسة شديدة الصعوبة والتعقيد للمؤلف الروسي أليكساندر سكريابين (١٨٧٢-١٩١٥)، وبينما دخلت إلى الغرفة محمل بأتربة الواقع، وانتصارات الشارع السوڤييتي الواهية، وربما التافهة بالقياس إلى سكريابين، حياني ماكسيم مستغربا ما أحمل، وحينما طلبت منه أن ينزل إلى الطابور حتى نتمكن من شراء ثلاثة عبوات أخرى من صلصة الطماطم، قد تنفعنا في المستقبل، نظر إلي من علياء أدب آلة البيانو في القرن العشرين، ومن قمة سكريابين، إلى حضيض الصلصة والطماطم وقاع الطابور والأزمة الغذائية والاقتصادية في الاتحاد السوڤيتي، كانت نظرة غير مكترثة، وغير آبهة بما يحدث في الكون، أمام إبداع سكريابين المكتوب على سطور النوتة الموسيقية، تترجمه أنامل ماكسيم الحالم المثقف الجاد. كنت ساعتها كشحاذ رث الثياب يدخل إلى حفل استقبال فخم في منزل أحد كبار الأدباء أو المثقفين. تجاهلني ماكسيم، وتابع مذاكرته لأليكساندر سكريابين. بعد أسبوعين من تلك الواقعة، كان والد ماكسيم في لينينجراد، لتأدية بعض المهام الخاصة بوظيفته الهندسية في بلدية كالينينجراد الواقعة أقصى غرب الاتحاد السوڤيتي (مدينة كينيجسبورغ الألمانية سابقا، المدفون بها إيمانويل كانط الفيلسوف الشهير)، والسيد إيڤان والد ماكسيم، شيوعي عتيد، تدرج في المناصب الحزبية، حتى وصل إلى اللجنة المركزية الإقليمية لكالينينجراد والمدن المحيطة. بعد رحيل السيد إيڤان، فوجئت بنقص عبوات صلصة الطماطم التي كنا نحفظها في مكان معلوم لكلينا أنا وماكسيم، وتبقى علبة واحدة من أصل ثلاث، فسألت ماكسيم، لعله استخدمها في الطبخ، أو استبدلها بشئ من أحد الزملاء، فكانت إجابته أن والده طلب منه علبتي صلصة الطماطم، لأن الأزمة طاحنة في كالينينجراد، ولا توجد صلصة طماطم في عموم المدينة. وهنا انتصرت بواقعيتي وتفكيري العملي، على ماكسيم الخيالي الذي لا يفكر في شئ سوى الموسيقى والفن والثقافة، بعيدا عن الحياة العملية، وجو الأزمات المحيط، فقلت لماكسيم بلهجة الحكيم: أرأيت يا صديقي، أنك لو كنت نزلت إلى الطابور وقتها، لكنت منحته خمس علب بدلا من اثنتين؟ فما كان من ماكسيم إلا أن نظر إلي من قلعته المنعزلة على جزيرة الفنون، وبلهجة الفيلسوف المترفع، وبابتسامة حانية مشفقة، وقال لي وكأنه سيعلمني الدرس الذي سوف أتذكره بقية حياتي (وبالفعل لازلت أتذكره، وها أنا ذا أحكيه الآن على الرغم من مرور ما يربو على العشرين عاما): يا محمد.. تذكر أن السعادة ليست في صلصة الطماطم!