في حوار لأحد القنوات صرح الرئيس السوري بشار الأسد في بداية ٢٠١٢ -على ما أتذكر- بأن “تداعيات التدخل الدولي في سوريا سوف تكون دولية مزلزلة!”، لم يمهل الوقت الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين حتى كان عليه هو الآخر أن يقول عقب الحصار الاقتصادي الذي فرضه عليه الغرب بسبب ضمه لشبه جزيرة القرم، واستمراره في دعم الانفصاليين في شرق وجنوب أوكرانيا أن “الحصار الاقتصادي على روسيا، سوف يكون له تأثير البوميرانج” (أي أنه سيؤثر على الغرب أيضاً وليس على روسيا وحدها.)
في ذروة انتصارات الغرب الرأسمالي على الشرق الشيوعي، وحينما سقط حائط برلين عام ١٩٨٩ وأعقبه انهيار متتابع لجميع الحكومات في أوروبا الشرقية، واندلاع الثورات الملونة بكافة ألوان الطيف وصولاً إلى محيط الاتحاد السوڤيتي المنهار في أوكرانيا وچورچيا ومولداڤيا، لم ينتبه أحد إلى أحد أهم الحقائق الي ساعدت في “نجاح” تلك الثورات، وهي التعليم الجيد، والثقافة الرفيعة التي تمتعت بها شعوب هذه الدول، والتي كانت أحد المنجزات التي يفتخر بها الاتحاد السوڤيتي. حينما بدأ الربيع الشرق أوروبي وبحثت الشعوب عن نخب تقودها من ظلام القمع والاستبداد إلى نور الحرية والديمقراطية فوجدت من تعلموا في ظل القمع والاستبداد أصول الإنسانية والحرية والسياسة والعلوم والثقافة والفنون، وتحركت تلك الشعوب قدماً نحو أنظمة هي مزيج من قسوة السوق المفتوح والتزام تاريخي بماض شيوعي يتمثل في وجود حاضر للنقابات والفكر المدافع عن حقوق العمال والفقراء، وجدت كثير من تلك الدول وسطاً مناسباً يكفل لرأس المال فرديته وتحرره، ويكفل للعامل حقوقه في الصحة والتعليم والبنى التحتية.
حينما أراد الغرب أن يجهز المشهد العربي في الشرق الأوسط لثورات ملونة من نفس النوع، وكانت بعض المجتمعات في تونس ومصر وسوريا وليبيا تشتاق إلى الانعتاق من أنظمتها السلطوية القمعية، تحرّك بنفس القالب الشرق أوروبي، فدفع بعدد من شباب النخب إلى ورش عمل للتعرف على تاريخ تلك الثورات، وبدت النخب العربية بالفعل مستعدة لذلك التغيير، وقادرة عليه، وممتلكة لأدواته، وكانت تلك حقيقة. فأمام مبارك وبن علي وعلي عبدالله صالح والقذافي، كان هناك مئات الآلاف من الشباب المستنيرين المثقفين المتعلمين ممن تفوق أفكارهم وخيالاتهم وحبهم لأوطانهم كل تلك الشخصيات المتكلسة على كراسي الحكم العاجزة عن تحقيق آمال شعوبها.
وبالفعل حينما اندلعت ثورات الربيع العربي، التحمت الشعوب بتلك النخب الشبابية أملاً في أن يتمكن الشباب من المضي قدماً بتلك الثورات نحو مصير يشبه مصير أوروبا الشرقية، بل وقد يتفوق عليها لما في تلك المنطقة من موارد طبيعية وبشرية وموقع استراتيچي يؤهلها لكي تكون من أفضل مناطق العالم جذباً للسكان والاستثمارات. لكن الحلقة المفقودة ظلت التعليم الذي لم يكن لجماهير الشعب العربي حظ منه كما كان لنخبه. فالتعليم في الوطن العربي نخبوي بالكامل، والمجتمع العربي متفسخ كأوضح الأمثلة الماركسية عن الصراع الطبقي. على مدار عقود نخر في جسد ذلك الوطن سوس الأصولية والوهابية والتطرف والإرهاب، فحوّل الشعوب العربية إلى شراذم متناحرة تقاتل بعضها البعض حول دخول دورة المياه بالقدم اليمنى أم باليسرى. اندلع الربيع العربي، وقد أدرك كل زعمائه بخستهم وحسهم الطفيلي المريض أن الجهل استدامة لسلطتهم، وأن الفقر ميزة لتنمية طبقاتهم ونخبهم، وأن المرض استثمار طويل الأجل، وهكذا كان الجهل والفقر والمرض ذلك الثالوث المزمن الذي يدعي الجميع أنه يحاربه، بينما هو يستدعيه ويستثمر في وجوده، حائطاً منيعاً بين الربيع العربي وتحقيق أحلامه الوردية.
اصطدمت الشعوب بإحباط أن قدرة الشباب على الحركة محدودة، وأن تأثيرهم متواضع، وأن الواقع إنما يفرض القوة وقانون الغاب عليهم، فعادت أدراجها خائبة الرجاء. بينما استثمر الأسد في جهل وفقر ومرض شعبه، ومضى ينحر في أبنائه الواحد تلو الآخر، بابتسامة باردة، ونصل صدئ. لكنه كان محقّاً!! فالتدخل الدولي في سوريا بالفعل كانت له عواقب دولية مزلزلة.. فبدءاً من عسكرة الثورة السورية، التي كان يعلم الأسد مآلها بكل تأكيد، نظراً لمخابراته العتيدة التي كانت تعرف كل صغيرة وكبيرة عن التمويلات الحقيقية التي تتسرب إلى الأخوان المسلمين في الداخل السوري، ومروراً بظهور مئات الألوية والجيوش والكتائب التي لا يعرف المرء لها عدداً ولا إسماً ثم ظهور الوحش الإسلامي الأكبر في المنطقة “داعش”، ومروراً بسيطرة جبهة النصرة ممولة من قطر والسعودية، وتحولها عن القاعدة مؤخراً ثم ظهور الأكراد في العامين الأخيرين، وتذبذب نظام الأسد من التعامل معهم ثم معاداتهم، ووقوف الولايات المتحدة خلفهم وتركيا ضدهم، ثم انتهاءً بالتدخل الروسي العسكري المباشر وتغييره قواعد اللعبة على الأرض وغيرها من المتناقضات المبكيات. صنع الأسد سوريا جديدة تتصارع فيها القوى الدولية جميعاً. بل صنع الأسد من الشعب السوري تهديداً دولياً جديداً لم يشهده العالم من قبل، فلم تعرف أوروبا كل هذه الأعداد من اللاجئين المتدفقين منذ الحرب العالمية الثانية.
تحدث الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين في خطاباته عما يحدث في سوريا من مجازر تقوم بها الجماعات الإسلامية وكان محقاً، وتحدث عن أزمة اللاجئين وتأثيرها على أوروبا وكان محقاً، ودشن الإثنان بوتين والأسد لهلع أوروبي من كل ما هو عربي، وكل ما هو سوري، وكل ما هو إسلامي. لتفلت نتيجة الاستفتاء لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتي كان رئيس الوزراء السابق ديڤيد كاميرون يعتقدها مضمونة لصالح البقاء من بين يديه، ويفلت معها مستقبله السياسي. كذلك ابتز الأسد العالم بسوريا، وابتز بوتين العالم بالقرم ليثبت نظريته بأن أمريكا التي تتدثر بالديمقراطية والحرية وكلينتون التي تبدو وديعة مدافعة عن حقوق المرأة وحقوق الإنسان لا تختلف عن أي سلطة فاسدة في أبعد بقاع العالم الثالث. أثبت الأسد وبوتين للعالم الغربي “الحر” أنه لا يقل عنهما دمامة أو دموية أو قدرة على القتل والعنف والاستبداد والطغيان. بل أثبتا للشعب الأمريكي أنه بحاجة لذكر فحل مثل دونالد ترامب يتحرش بالنساء ويجذبهن من أعضائهن التناسلية حتى تتناسق القوى وتتوحد الأهداف والوسائل ليتوصل العالم إلى صيغة للتعايش بعدما فشلت “الحمائم” في السيطرة على مقاليد الأمور في العالم.
اليوم يتربع بوتين والأسد على عروشهما، بعدما انتصرا في حروبهما السياسية في چنيڤ ولوزان ولندن وجعلا تركيا تطلب من جبهة النصرة مغادرة حلب، وتقف أمام تغلغل الأكراد في الرقة، وتحاول التدخل مع العراقيين في الموصل، وبعدما أصبحت الشام والعراق مكاناً يحارب فيه الجميع ضد الجميع، ينتظران حتى يناير ليقطفا ثمار ذلك النصر السياسي على الأرض في العراق والشام وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.