(١)
بمجرد أن اكتشف الإنسان قديماً العلاقة الشرطية بين الجنس والحمل، بين الجماع والإنجاب.. هبطت المرأة من علياء سموها وقدسيتها ومكانتها الإلهية.. تحوّلت من عشتار (عند البابليين)، وإنانا (عند السومريين)، وعشتاروت (عند الفينيقيين)، وأفروديت (عند اليونان)، وڤينوس (عند الرومان) إلى وعاء البذور الذي يلقي فيه الرجل، وبهيمة العشر، وبقرة الإرضاع.. تحولت من السماء التي تمنّ بالمطر إلى الأرض التي تستقبل البذور.
نشأ المجتمع البطريركي/الأبوي الذي كرّست كل أساطيره ومعتقداته ودياناته لسيادة وسيطرة وسلطة الرجل.. فهو جالب الطعام وصانع السلاح وصاحب الأرض والملك المتوّج بعد الله (الذكر أيضاً) الذي فوضه كي يكون ظلّه على الأرض (وفقاً لكل الديانات فيما بعد).
أصبحت المرأة أصل الذنب والرجس والدنس، وسبب طرد آدم من الجنة، ومندوب الشيطان، وسبب شقاء الإنسانية جمعاء، بل إن الحيض الذي يصيبها ليس سوى عقاب إلهي على ما اقترفته وسوف تقترفه أو تساعد على اقترافه من ذنوب! فهي ناقصة عقل ودين وحكمة ومعرفة وقدرة جسدية، واحتياجنا نحن معشر الرجال إليها ليس سوى احتياجاً بيولوچياً من أجل استمرار النوع، واضطهادها وقمعها والتمييز ضدّها إنما يأتي في سياق انتصار الفضيلة على الرذيلة، وانتصار الخير على الشر والأبيض على الأسود، والدفاع عن حماية احتكار الرجل للمال والسلطة والدين والفلسفة والجنس والمتعة.. هذا هو المدخل الرئيسي لدعم الإقطاع والطبقية والاستغلال والمجتمع الأبوي، والفلسفة الأكثر ملائمة لتبرير العنف والقمع والظلم من قبل الأقوى للأضعف، ومن قبل الحاكم للمحكوم عشيرة كان أو قبيلة أو دولة أو فرداً.
من هنا اتسّع الوعاء الأبوي ليشمل المفهوم الديني/الاجتماعي للشرف وارتباطه بفرج المرأة ثم بإليتيها، ثم بثدييها، ثم بساقيها فذراعيها حتى وصل في ديانات مثل اليهودية والإسلام إلى جسدها كاملاً بما في ذلك وجهها! بل انخفض سقف كلمة “الشرف” في مجتمعاتنا الشرق أوسطية ليحمل معانٍ أكثر تفاهة وسذاجة وبساطة من المعنى الحقيقي العميق للكلمة، فمثلاً لم يعد الكذب إخلالاً بالشرف طالما ظل الإنسان محافظاً على شرف نسائه، ولم يعد النفاق والخداع والسرقة وربما القتل أشياءً مخلة بالشرف طالما حافظ المرء على عرض بيته، وأصبح الدفاع عن الشرف في واقع الأمر هو دفاع عن أبوية السلطة، وأبوية الدين، والحفاظ على رموز تلك الأبوية ممثلة في الشيخ والقس والحاخام والسلطان والملك والرئيس، وتكريس لمفهوم الرضا والقناعة وتبرير قسوة العيش وشظفه وكذلك الحكمة العميقة وراء ضرورة الطبقية وحتمية وجود الأغنياء والفقراء.
(٢)
غابت القضية الوطنية في السبعينيات من القرن الماضي، بعدما أدرك الرئيس المؤمن أن “٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد أمريكا”، ومعه أدرك الشعب الذي دفع من قوته وطاقته ودم أبنائه منذ ١٩٥٢ قرابين لا تعوّض ولا تقدّر بثمن من أجل القضاء على الإقطاع والاستعمار وسيطرة رأس المال على الحكم، ومن أجل إقامة حياة ديمقراطية سليمة وجيش وطني قوي وعدالة اجتماعية، فلم يحصل سوى على هزيمة بطعم النصر ٦٧-٧١، ثم على نصر بطعم الهزيمة ٧٣-٧٤، وبعد النصر والهزيمة وجد الشعب أنه لازال منتهكاً مستباحاً، طعنت نكسة عبد الناصر وانفتاح السادات القضية الوطنية في مقتل.. (بعدما لاح أفق الاستفاقة والقيام من العثرة بين الاستنزاف والعبور وحتى ثغرة الدفرسوار).. وقتها تعيّن على الشعب المصري أن يحلّ قضاياه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشخصية بعيداً عن الدولة، تعرّى المواطن المصري، ورحل إلى بلاد الوهابية، فارتدى “الدشداشة” الجلباب، وارتدت امرأته الحجاب ثم الإسدال فالنقاب، وعاد محملاً بالأموال والثقافة إلى الوطن الجريح في الثمانينيات، ليجد أقربائه وجيرانه أكثر فقراً وعوزاً، فكان جزءا من حمايته لرأسماله (إنجازه الشخصي الوحيد!) الاحتماء بالدين (الزي والزبيبة)، فالله إنما رضى عنه لاقترابه منه أكثر وأكثر.
ثم اكتشف مبارك -كمن سبقه- سحر ترويض الإرهاب لا مواجهته، فاستغل الإرهاب/التطرف لتحقيق مكاسب سياسية.
وفي مواجهة فكر الناجون من النار والتكفير والهجرة والقاعدة، ظهر من جديد فكر الإخوان المعتدل “السياسي” القادر على التواصل والتنسيق وعقد الصفقات مع السلطة ممثلة في الحزب الوطني، فالتقت جحافل العائدين من الخليج بالتنظيمات الإخوانية المحلية، والتقى كلاهما برأس المال والفكر الجديد، فعقدوا الصفقات.. يتعاركون تارة، ويتفقون تارة.. من رحم تلك العجينة الغريبة غير المتجانسة، ظهرت طبقات بلاستيكية مخلّقة شديدة الغرابة في المجتمع المصري.. أغنياء جدد يصارعون فكرة العلاقة الطردية بين الفقر والإيمان، وشظف العيش والجنة.. يريدون بدورهم أن يدخلوا الجنة، لا يمانعون في الإلتزام بتعاليم دينية مع الإبقاء على بعض المباهج “الدنيوية”.
أصبحت تلك الطبقات في حاجة إلى رموز أبوية عصرية ..“كول”، شاب لطيف يلبس ملابس عصرية، خريج جامعات أمريكية، يتحدث لغات، يكسر الشكل التقليدي الأزهري أو الإخواني الذي عفا عليه الزمن. التقطت المجتمعات الجديدة ظواهر عمرو خالد ومعز مسعود بكل شغف وشوق.
(٣)
على الرغم من ذلك التدين المظهري واستناداً إلى استشراء آفات السلبية، والطفيلية، والجشع، والكذب، والنفاق، والفساد عقب مقتل القضية الوطنية في سبعينيات القرن الماضي تفشت ظواهر الغش والنصب والاحتيال والاستغلال والقمع والقهر والعنف والظلم والوضاعة الإنسانية والتحلل الأخلاقي، وغاصت مجتمعاتنا الذكورية الأبوية “الشريفة” في كافة ألوان الدنس، والرجس، والتهتك، والابتذال، والمجون، والشرور، بعدما اختصرت الشرف في الحجاب والإسدال والنقاب.
وعلى الرغم من ازدياد الجوامع والزوايا، تدهورت قيم الدين الإسلامي والديانات جميعاً، ولم تعد الطبقة المتوسطة وما يحيط بها من طبقات “بلاستيكية” تجد أي غضاضة في بيع بناتهم لمن يدفع أكثر، ومن يوفر قدراً أكبر من الأصول الثابتة، لتصبح الأسس التي تبنى عليها الأسرة والمجتمع أسساً واهية، مادية، مغرقة في الإستهلاكية، فارتفعت معدلات الطلاق، واهترأ المجتمع المصري وتفكك على نحو ملحوظ.
من هنا نجد أن علينا الوقوف أمام أسئلة وتابوهات دائماً ما تفضحنا وتفضح عقدنا النفسية، وسعينا نحو المظاهر والقشور، بديلاً عن المعدن والجوهر.. أسئلة حول “حرمانية الرقص والتمثيل والموسيقى وربما الفن بصفة عامة”.. أسئلة حول “السينما النظيفة -العري- القٌبلة السينمائية”.. أسئلة حول “الموديل العاري”.. أسئلة توضّح الأزمة العميقة بين ما نعتقد، وما نمارس، بين قدرتنا على تقدير الفن والجمال، وعجزنا عن وضع حدود وأطر واضحة وصريحة لهذا الفن وذاك الجمال.
وفي ظل الثورة المستمرة في مجتمعنا، وفي ظل المرحلة الحرجة التي نمر بها، من ظهور واضح للقوى الرجعية في المجتمع، وظهور موازٍ لنسخ “ليبرالية” و”وسطية” من القوى الرجعية، يظل تشيئ المرأة وجسدها وتسليعها ضمن حالة عامة من تسليع المفاهيم على كافة مستوياتها بداية من الثورة ومروراً بالفن والثقافة وانتهاءاً بالوطنية والوطن والأرض.. في ظل ذلك كله، لا أرى أي تحرر للمجتمع، وللإنسان/المواطن/الفرد، ولن يتجدد أي خطاب إلا بالمواجهة، مواجهة أنفسنا قبل أي أحد آخر، تحديد هويتنا الإنسانية والقومية والإقليمية والثقافية حتى يمكننا بعد ذلك تحديد الإطار الذي يجمعنا كـ “أمة” واحدة، ولن يكون لذلك سبيلاً إلا بتحرير المرأة المصرية، تحرير الإنسان المصري، من تابوهات الجنس والدين والأبوية.
ليس غريباً أن ترتبط جميع الثورات الاشتراكية، والتوجهات التقدمية بحرية المرأة كمكون أساسي من مكونات الثورة، لذا لم يأت اشتراك المرأة المصرية في ثورة ٢٥ يناير اعتباطاً، وإنما كان نابعاً من عمق إدراك المجتمع المصري والمرأة المصرية لدور المرأة، ودور حرية المرأة، ودور ثورة المرأة على القيم الأبوية البالية، والمجتمع الذكوري الأبوي المهترئ، ولم يكن من قبيل الصدفة أيضاً أن ترتبط انتكاسات الثورة بحالات تحرش جماعي، واغتصاب، ومليونيات قندهار بكل ما تحمله من دفن للمرأة وراء الأحجبة وطمس كينونتها وهويتها والدفاع عن محافظة وتدين المجتمع، من منطلق أن مفاهيم الأخلاق والفضيلة والقيم الرفيعة إنما ترتبط ارتباطاً وطيداً بالتخلص من شرور المرأة، والحفاظ على فرجها، بصرف النظر عن الأخلاق والقيم والفضيلة والعدل والحب والجمال والإنتاج، والإخلاص، ثم الإصلاح الاقتصادي، والتنمية، والعبور بالمجتمع نحو مستقبل الحرية، والعيش، والكرامة، والعدالة الاجتماعية.. المبادئ التي قامت من أجلها ثورة يناير المجيدة.
لذلك فإن تكريس أنماط معينة من الرجعية تحت العناوين البراقة، قد يؤجل الصدام، لكنه لن يمنعه.
الثورة هي المرأة، والمرأة هي الثورة.