محمد شعير يكتب: المرتبة المقعرة

فى عام 1945 أصدر نجيب محفوظ روايته \”القاهرة الجديدة\”، قرأت الرواية باعتبارها \”مقالا\” يتحدث عن فضائح باشاوات القاهرة، وتم تحويل محفوظ إلى التحقيق فى مكان عمله بوزارة الأوقاف، وكان من حظه أن المحقق الشيخ أحمد حسين شقيق عميد الأدب العربي طه حسين، وعندما سأل محفوظ عن الأحداث التى رواها، أجابه محفوظ: \”هذه رواية مثل التى علمها لنا أخوك طه حسين. فقال الشيخ أحمد: خلاص أنا فهمت الوضع وسأشرحه لهم، وأضاف ناصحا محفوظ: لماذا تكتب عن فضائح الباشوات وتعرض نفسك للمشاكل؟ أكتب عن الحب أفضل وأكثر أمنا!

بعد سبعين عاما على تلك الواقعة، يتم التحقيق مع روائى آخر، بتهمة \”خدش الحياء\” فى رواية أخرى عن القاهرة، ولكنها عن قاهرة كابوسية تختفى وتتلاشى تحت وطأة العشوائية والقبح.. وأيضا يتم التعامل مع الخيال باعتباره واقعا أو مقالا صحفيا.. يذهب بالزميل طارق الطاهر رئيس تحرير \”أخبار الأدب\” التى نشرت فصلا من الرواية إلى المحكمة أيضا!

سبعون عاما، كأن شيئا لم يتغير، ولكن الحقيقة – التى يتعامى عنها الجميع-  أن العالم بالفعل يتغير.

رواية أحمد ناجى ليست استثناء.. سبقتها عشرات الأعمال الأدبية والفنية، بل فى تاريخ العالم ثمة أعمال أدبية عديدة وقفت أمام المحكمة لكونها أعمالاً مكشوفة أو فاحشة.. حاكمت فرنسا بودلير بسبب ديوانه «أزهار الشر». وحاكمت أميركا جويس بسبب روايته الشهيرة «عوليس».. وحاكمت بريطانيا دي إتس لورانس وروايته «عشيق الليدي تشاترلي». برأت المحاكم بعض هذه الأعمال وأدين البعض الآخر وقتها.. لكن الدرس الأهم أن بقيت هذه الأعمال، وأُعيد طبعها عشرات المرات، بقيت هذه المحاكمات شيئاً من التاريخ.

عندنا، في مجتمعاتنا العربية، يمكن القول إن الرقابة هي حكايتنا، حكاية مجتمع يبدو وكأنه لم يتطور منذ لحظة الحداثة، ولم تدخل فيه الرقابة متحف التاريخ الطبيعي، كما جرى في مجتمعات أخرى.. أو لم تختلف أسئلته إلى أسئلة أكثر تطوراً، تظل الأسئلة القديمة تلح عليه وتضغط.

في عام 1927 دارت في القاهرة معركة أدبية ساخنة، كان طرفاها سلامة موسى وتوفيق دياب في مناظرة شهيرة، وقد سُمّيت المعركة بمعركة «الأدب المكشوف»، وقد شارك في المعركة بمقالات -مؤيدة ومعارضة- العديد من أدباء ومفكري تلك الفترة. وكان سؤال المعركة الأساسي: هل يجب أن يكون الأدب مستوراً تراعى فيه الأخلاق، أم مكشوفاً لا شأن له إطلاقاً بالأخلاق؟ وقد دافع توفيق دياب عن وجهة نظره، وهي ضرورة تقييد الأدب بالأخلاق، ودافع سلامة موسى عن ضرورة الحرية المطلقة في الأدب وعدم التقيد أصلاً بالأخلاق.

وفى منتصف الستينيات نشر إحسان عبد القدوس روايته الشهيرة «أنف وثلاث عيون» مسلسلة في مجلة روزاليوسف. لتبدأ حملة من حاملي لواء الفضيلة ضده، ثم استجواب في البرلمان، ثم أمام نيابة الآداب.. قبل أن يتدخل  عبدالناصر لحفظ البلاغ. ونفس الأمر جرى مع صنع الله إبراهيم عندما أصدر روايته الشهيرة \”تلك الرائحة\” التى صادرها الرقيب بسبب جرأتها، ثم صدرت مختصرة، ولكن إعيد طبعها مرات ومرات فيما بعد كاملة، وتعتبر الآن من الكلاسيكيات.
لم يحبس إحسان، ولا صنع الله،  ولا أى من الأدباء بسبب أعمالهم المنشورة، وحده أحمد ناجى يذهب إلى زنزانته الآن. هو يدفع ثمنا لابد أن يدفع فى هذه المجتمعات المتكلسة، التى تجد كتابا وصحفيين يؤيدون السجن بسبب الأفكار، ويفخرون بذلك.. أو حتى على الجانب الآخر يطلب البعض أن تقتصر قراءة الروايات على \”نقاد الأدب\”، وكأن الأدب كهنوت.

فى معركة ناجى، من الضرورى التأكيد على حق الجميع في القراءة والمشاهدة والحكم والتأويل، بما في ذلك الأزهر والكنيسة، ولكن لا يجوز لأي جهة مصادرة حق المبدع في أن يعبر عن أفكاره ورؤاه كما يشاء، بلا تهديد أو قتل مادي أو معنوي، وبدون أن يذهب الكلام والخيال إلى \”المحكمة\”!

معركة ناجى تجرنا إلى الأسئلة القديمة، كأن مؤسسات الوصاية والسلطة الأبوية، لا تدرك أن العالم يتغير (حتى وإن كان هذا التغيير بطيئا وغير ملموس).. إنها أشبة بالرجل الذى نام فى ليلة \”زفافه\” فوق \”المرتبة\” الجديدة، الغالية، والمنقوشة.. رقد فوقها بجسده الفارع الضخم، واستراح إلى نعومتها وفخامتها، وقال لزوجته التى كانت واقفة إذ ذاك بجوار النافذة: انظرى.. هل تغيرت الدنيا؟ ونظرت الزوجة من النافذة، ثم قالت: لا…. لم تتغير.

نام يوما، وأسبوعا، وعاما ثم عشر أعوام، كانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدودا عميقا، ولكن كان قد مات، وسحبوا الملاءة فوقه، فاستوى سطحها بلا أى انبعاج، وحملوه بالمرتبة التى تحولت إلى لحد، وألقوه من النافذة إلى أرض الشارع الصلبة. حينذاك و بعد أن شاهدت سقوط المرتبة / اللحد حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة، وأدارت بصرها فى الفضاء وقالت: يا إلهى.. لقد تغيرت الدنيا!

هذه باختصار قصة \”المرتبة المقعرة\” للمبدع الراحل يوسف إدريس، وهى أيضا تكاد تلخص حال كثير من مؤسسات الوصاية لدينا، لا ترى أن هناك ثورة حقيقية، لا ترى أن العالم يتغير، وتريد أن تجرنا إلى المعارك القديمة والأسئلة القديمة أيضا.

ستدخل رواية ناجى التاريخ، وستظل قضيته شاهدة على لحظة إنحطاط كبرى – عابرة- فى تاريخ مصر.

يُنشر هذا المحتوى في إطار حملة مشتركة بين مواقع  \”زائد 18\”، و\”مدى مصر\”، و\”قل\”،و \”زحمة\”. للتضامن مع الروائي أحمد ناجي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top