محمد شحم يكتب: نعم.. يمكن محاكمة اﻹبداع

على باب البار الملحق بالفندق في إحدى الدول العربية، كان يقف \”سنج\” الهندي ضخم الجثة بحلته الزرقاء اﻷنيقة طوال الليل حارسا لمرتادي المكان من شرور أنفسهم، لفت نظري إسورة فضية في معصمه وكانت تختلف عن هيئته، فسألته بعد أن الف وجهي نسبيا: من أين جئت بها؟ فأجابني بتردد: في معتقدي الديني علي أن أقتل مسلما حتى أخلعها من يدي، فقلت له دون تردد وبشكل من الهزر: ها قد جاءتك الفرصة حتى قدميك فأنا مسلم، فرد بتأثر كمذنب: ستظل في يدي طول العمر دليلا على سماحة إلهي من وجهة نظري، فأغلب اﻷديان مجرد إبداع بشري خالص.
‎يوم الجمعة وقف الشيخ يخطب بادئا حديثه بديباجة محفوظة يرددها كل خطبة: وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وظللت سنوات طوال أتساءل في سريرتي دون بوح: السيارة بدعة والتليفون كذلك، كيف للإبداع أن يحرقه مبدع الكون؟ حتى تجرأت وسألت الشيخ الذي هرب من السؤال بحشر رأسي بتفاصيل لم أفهمها في وقتها ولا أذكرها لعدم إقتناعي بتعرجات اﻹجابة المطاطية المصاغة في كلمات متسقة معه منفرة لي ولقناعاتي. لم يستطع إقناعي ﻷنه يستخدم البدع تلك كلها بلا إستثناء.
‎ظل اﻹنسان يبحث طوال عمره عن شيء مبتدع يسهل حياته على الكوكب اﻷزرق وإستخدم خياله وإبداعه لصناعة سهم يرشقه في قلب حيوان ضار كاد يأكله فنجى. واستخدم خياله ليبدع شيئا ما أسرع من الجمل ليشق به الفلاة متجها نحو مدن أبعد من أن تحمله إليها بعير. لقد استخدم خياله ليتقي شر كائن وليسبق الزمن وليتآلف مع المكان.
‎بدأ اﻹبداع منذ الساعة صفر ليتخيل آدم مكان حواء متنقلا من مكان إلى مكان ليبيت في حضن حبيبته. التي أخرجهما خيالها نحو الخلود من الجنة، وعرف إبراهيم خليل الله وأبو اﻷنبياء ربه بالخيال حين حدق طويلا في القمر ‫وحين سرح أياما في الشمس، وتيقن يعقوب من نبوة يوسف حين تخيل أن أحلامه رؤى لابد وأن يبدع في تفسيرها بخيال فضفاض، وصدق زكريا مريم حين سألها: أنى لك هذا؟ حين وجد عندها خيرا كثيرا ولم يكذبها ليتهمها باﻹفك مستخدما خيال رحيب، وسحر قوم فرعون الناس باﻹسهاب في الخيال بإقناعهم بالسحر أن العصي ثعابين تسعى وقد وصفهم الله بأنهم: شبه لهم. شبه لهم بخيالهم. ‬
‎من كان يتصور أن يحقق مهندس خوفو ‫\”‬حم أيونو‫\”‬ خياله ببناء صرح يبقى لخمسة آلاف عام؟ أو أن يجسد اﻷخوان رايت حلم عباس بن فرناس بمحاكاة الطير بصناعة أول بدعة تخرق الجو متجهة نحو السماء لتجعل حياتنا أبسط، أو أن يجسد اﻷخوان لوميير حلم اﻹنسان على مساحة مسطحة فيما سمي بعد ذلك بالسينما ليثرى خيال اﻹنسان بالفن ويعرف العالم ويزور الفضاء ويقتحم الشريان اﻷورطى داخل قلب إنسان ويسعى بجوار اﻷميبا وحيدة الخلية ليدركها، ويجسد الديناصورات في صورة تحاكي واقعا لم يكن يمكنه يوما أن يحلم حتى برؤياه؟ هذا هو اﻹبداع والخيال.
‎اﻹبداع هو القدرة على محاكاة شيء ما من اللاشيء. إنها قمة السمو اﻹنساني في أبهى صورها وأجمل رؤاها وأعظم منجزاتها وأرق أشكالها، وأيا كان اﻹبداع فهو لم يكن حكرا على أحد ولم يكن جريمة أيا ما كان يحوي من فكر ورأي ومنطق، اﻹبداع هو شيء من روح الله وهبه لبعض من الناس ليتحفوننا بقدرة الله فينا وفي صنعنا وخلقنا وإبداعنا، هو طاقة نور لولاها لغرقنا في ظلمات سحيقة بلا قرار، لولا اﻹبداع لما تواصلنا بالكلام، لولا الخيال لما توصل جراهام بيل لصنع التليفون ليتطور بإبداع آخرين ليصبح شاشة باللمس لنكتب عليها مقالا يصل عبر اﻹنترنت إلى عين قارئ شغوف بالمعرفة يود أن يعرف إلى أي مدى وصل إبداع البشرية، فكيف نحاكم الخيال واﻹبداع؟
‎نعم يمكن محاكمته فقط في خيالك بالطريقة التي تراها ولكن بشكل لا يخرج عن حيز الخيال على الأكثر.‬

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top