وكأن قدرها في اسمها، وكأن اسمها سؤال حائر مكتوب في شهادة ميلادها:
بهية.. مالك؟
وقبل أن تجيب هي، يجيبك اسم جدها: عدلي.. أين عدلي؟
بهية، تلك الطفلة البهية التي لا تدرك بعد -وسوف تدرك يوما- أن العدل مفقود في بلادها منذ زمان بعيد، تائه في الزمان بين أربع حيطان في ضيق المساحة والمكان، كل طفل من حقه أن يلقى أباه يوميا، إلا إن كان مسافرا أو ميتا، لكن بهية محرومة من أبيها بأوامر عليا لا يعرف أحد من أين تصدر، ولا يستطيع أحد أن يجد تلك الوريقات التي قيدت فيها ملاحظة من مجهول أن يظل مالك حبيس زنزانة فردية وإن نطق القاضي ببراءته، ذلك الذي يتقاضى مرتبه من صاحب اﻹمضاء المجهول الذي بيده مصائر الكثيرين، ذلك المرتب الذي يزيد بمعدل 10% كل ثلاثة أشهر ليجعله ربما يتغافل عن أن يسأل أي سؤال قد يحقق العدالة.
صاحب اﻹمضاء المجهول هذا مسئول عن رعية، سوف يحاسب عليها حساب الملكين يوما ما، وسوف يسأله الجميع بما فيهم القاضي نفسه والسجين عن العدل الملقى بظلم بالغ في غياهب الجبروت وفقا لديكتاتورية بغيضة تظن أن الوطنية قد تجسدت فيها.
تسأل بهية: أين أبي؟
ترد أمها: مسافر.
تسأل بهية: ومتى يعود؟
فلا تجيب أمها أبدا.
إن أسئلة بهية مستعصية اﻹجابة وكأنها أسئلة وجودية تناقش فيها العدم، فكيف يجيب؟!
ﻷن منفذ العدل لا يمكّن اﻷم أن تجيب إبنتها بالحقيقة، يا لفداحة المأساة أن تكون الحقيقة سرا لا يمكن اﻹفصاح به! يا لعظم المصيبة أن تفسح اﻹجابة مجالا أوسع من مجال كتمانها، هذا المجال الذي لو نقل لزنزانة أبيها لجعله حرا، لكنه أبى إلا أن يفصح عن الحقيقة وقالها في وجوه الجميع بصمود ووضوح غير مسبوقين، فكان مصيره أن يحيا في أكذوبة سقيمة، أكذوبة تنفيذ القانون، وياله من قانون طيع متلون كالحرباء على حسب ما تضغط عليه.
إن الجميع مشارك في حبس أبيكي يا بهية، نهاية من كاتب هذا المقال الذي لم يستطع إتخاذ خطوة حقيقية، مرورا بمحرر المحضر وقوة التنفيذ والمحامي الذي لم يستطع إستخدام القانون، وحتى السجان والقاضي والماضي على إستمرار الحبس إحتياطيا ومصدر القانون وكاتبه وصاحب إقتراح التشريع وممرره، ورجل الشارع العادي الذي إستفتى فقال نعم، كلنا نحمل وزرا ما ونعلم أننا سوف نقف أمامك يوما نتمنى الغفران والسماح، وﻷنك بهية فسوف تسامحين حين تدركين كم نحن مهزومين مستضعفين.
كان العدل هو المطلب الثالث في نداءات الثورة، وسبقته الحرية، وتلك المطالب البعيدة لم تتحقق ﻷن المطلب اﻷول في الهتاف لم يتحقق بعد، مازال عيشا مخبوزا في فرن الظلم ومعجونا بدماء الشهداء الذي تحول لماء هين، ودقيقا من ذرات بقايا خرطوش فقأ عينا والهب ظهرا وقضى على حيوات كاملة.
نهاية الحديث يا بهية، إن ما تبحثين عنه سوف تلاقينه يوما، ربما بعد فوات اﻷوان ولكنه سوف يكون حاضرا بسبب تضحيات أبيك وأمثاله، تلك اﻷيقونات التي نعوّل عليها وتضيئ لنا دروبا نبحث فيها عن عيش وحرية وعدل وكرامة، محققة في نهاية اﻷمر بعد زوال غمام الديكتاتوريات العقيمة التي لا تنجب أرواحا بهية مثلك.
حتما إن العدل موجود، وسوف يعود أبوك به إلى الدار ملفوفا في هدية قيمة وكبيرة وسوف تقضين وقتا طويلا في سبر أغواره، وسوف تفرحي كثيرا بتلك الهدية، وسوف تسيرين مرفوعة الرأس دوما، بينما مكسورة هي عين السجان مطأطيء الرأس ذليل الجناح.
تباهي يا بهية بالعدل من أبيكي هدية.
نادوها: بهية، سألوها: مالك؟ فأجابت: عدلي.
#رجعوا_مالك_لبهية
#مالك_عدلي_حر