محمد شحم يكتب: خد لك نفس عميق

بالقطع لسنا جميعا خبراء اقتصاد \”تلك العبارة الملتوتة\” لإدراك البعد الكارثي أو المشرق لإلقاء الجنيه في المحيط الهادر لتتلاطمه أمواج العملات وحيتان المضاربين وبواخر الأثرياء، أو تتلقفه أيدي الملائكة الصغار الذين يعبثون بالرمال على الشاطئ لينشئوا قصور وقلاع أحلامهم الخيالية الصغيرة.
لكننا خبراء في ما نفعله يوميا. فالخبرة تأتي بالتجربة الحياتية والممارسة، وليس فقط بالدراسة النظرية. ولشديد الأسف أننا نمارس يوميا شراء مستلزمات \”التغذية\” التي هي أبسط حقوقنا المشروعة تلقائيا. ولذلك خبرنا في تلك الناحية من الاقتصاد المنزلي على الأقل. كما أن سيدات قصورنا يدركن اقتصاديا متى تفنى الطاقة المستهلكة -يوميا في إنضاج الطعام- المخزونة بداخل تلك الأنبوبة، فأصبحن بالخبرة والممارسة خبراء في تلك الناحية أيضا.
بخبرتنا العميقة في هذا الدرب البسيط من دروب الاقتصاد الأخرى الأعمق، أدرك أغلبنا أن هناك ثمة خلل ما مربك وغير منطقي يحدث يوميا. فنفس الطلبات البسيطة التي نقشت على ورقة البردي أيام الفراعنة، مازالت تحتفظ بها سيدة القصر ملصقة بشكل ما على الثلاجة: خبز، لبن، بيض، وجبن.

ولكن المتغير هنا بشكل مريب هو رقم العملات المدفوعة في نفس الأشياء. بشكل ما تصنع تلك المتتالية التي لا ندري ماهيتها، وأطرحها هنا، ربما يستطيع نابغة ما فك شيفرتها الحسابية أو الهندسية: ٣٢، ٤٠، ٤٣، ٤٨، ٥٢، ٥٩، ٦٣. ربما لو ذكرت أن الجائزة حزمة قصب أو كيلو بنجر، لوجدت من يبذل جهدا لحلها.
‎لسنا خبراء اقتصاد، لكن سياراتنا تسير بالبنزين، وكان ثمنه أقل من جنيه من سنين معدودة على كف اليد الواحدة. ندفع فواتير شهرية وربع سنوية واستهلاكنا كما هو، فلم تزد العائلة شخصا واحدا أو ثلاجة جديدة، لكننا ندفع ضعفين وثلاثة أضعاف عن ذي قبل، وكأننا فتحنا مقهى صغيرا على أطراف المطبخ.

لسنا منظرين اقتصاديين، ولكن ﻷن حق أطفالنا علينا غير المأكل والمشرب، التعليم الذي لا تعتني الدولة بميزانيته ولا توليها اهتماما، فقد وهب -أغلبنا- من ثلت إلى نصف راتبه أو دخله في مصاريف تخص اﻷمر اﻹلهي \”اقرأ\”، لذا فقد لمسنا بأنفسنا تجربة أقساط المدارس التي تضاعفت في خمس سنوات وكأنها قرض صندوق النقد الدولي، ناهيك عن مستلزمات التعليم وأدواته وملابسه.
حينما تغادر بيتك متجها لهايبر ماركت تحمل ألفي جنيه لمستلزمات شهر وتعود خالي الوفاض، فقد يرتاب البعض في أنك ربما مدمن للبودرة! فيما أنت لم تقتن لنفسك حتى نوع القهوة التي تفضلها وتنازلت لحساب العرض اﻷكثر توفيرا لصالح منتجات أهم تندرج تحت لافتة البقول أو المنظفات أو السكر.
ولشديد اﻷسف أن المواطن لا يستطيع التعاطف مع حكومة اتخذت كافة اﻹجراءات الخاطئة، بينما كان اﻷمر مازال بيدها لإصلاح مفتوح دون قيود أو شروط وبتفويض ممنوح بشكل شامل ودون اعتراضها بنقد، بل وبكامل التصفيق والتشجيع والتطبيل إن أمكن!

قد يتعاطف المواطن مع حكومة مرت بكارثة احتراق غابة أو زلزال هز وقارها أو بركان ردم المنازل، وبذلت حكومته أقصى ما في وسعها مثلا لتخطي الكارثة المفاجئة، لكن ما الذي يجبر مواطن مأزوم أن يلتمس لحكومة القرارات الهوجاء أية أعذار؟! وبأي منطق ومن أي منطلق؟‎!

بعد كل ما خبرنا من معلومات تخص مماراساتنا اليومية في واقع مأزوم، فلا يصح لشخص أن يوجه لنا سؤالا إستنكاريا أتفه منه: هو إنتوا خبراء اقتصاد!
‎‫كلنا أصبحنا نعي، وحتى أكثرنا أمية ماذا يعني تعويم الجنيه، ومن لا يعلم أو يرفض تصديق تفاهة تلك العملة العائمة التي تتخذ من المحيط محل أولى كورساتها التدريبية، فسوف يدرك خلال أيام معدودة حين يلمس غرقها في مواصلاته وتعاملاته اليومية، وسوف يتخطى حتما حالة اﻹنكار التي تلازمه في أية مصيبة حين تكون مصيبته في جيبه، هذا إن لم يكن لاحظ من الساعة اﻷولى الأزمة متمثلة في الوقود.

سوف يصبح المتهكم اللطيف أيضا خبير اقتصاد من الدرجة اﻷولى، حين يأخد غطسا للبحث عن جنيه غارق ولا يجده، وربما يقرر وقتها أفضل الخيارات بالبقاء في اﻷسفل للأبد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top