في زنزانة فردية، ليس له سوى جدران أربعة تحتضنه، يبدو له مع الوقت أن هذا الاحتواء هو المعنى الخالص للحب الحقيقي.. يبدو كالرحم لنضج وشيك يليه خروج مكتمل.
لا يفارق اﻷرض التي منها وإليها يعود، محاولا التأقلم بأن وحدته أفضل من مخالطة آخرين.. فرائحة السجناء نفاذة لقلة الماء وسوء الطعام، كما أن ديمومة الاحتكاك مع اﻵخرين جد مزعجة وتثير اﻷرق وتنشر المرض.
على الحوائط تتجسد كافة أشباح مخاوفة وكل أحلام حياته.. بداية من الموت وحيدا والخروج جثة وسط قوم قرروا معاداته للأبد، وبين تخيلاته عن حياة قادمة أرقى بعد انقشاع الغمة وانقضاء العقاب.
عقاب! نعم إنه يعاقب هنا بسبب أفكاره تلك عن المخاوف واﻷحلام عامة.. إنها مجرد أوهام لمستقبل يرسمه، هي ما صنعت به هذا.
يقرر أنه لن يفكر أبدا، فالفكر ثمنه باهظ في قاموس بلاده، وعديم الفكر والمبدأ يحيا حرا كأي ملك من ملوك العالم الحر!
فكم من وضيع فكر، أصبح نجما ساطعا وسط الجماهير العريضة؟
الأمثلة تفوق عدد جميع أصابعه.. إنهم ملوك العالم الحر!
العالم الحر! وهل هناك حرية في عالم يحكمه القوي بقبضة السلاح المٌعمر المدمر؟
المُعمر يذكره باﻷرز الذي ذاقه في قرية جده بعد مرح طويل في الغيط، ويذكره الاسم بديكتاتور قتله مواطن إبان ثورة قصيرة في بلاد مجاورة.. ويا لبشاعة النهايات لهؤلاء، وكيف لا يخشون على أنفسهم؟ إنه النزق بالقطع.
كيف يحيا السجناء هناك؟ إنهم وكما قص عليه صديق قديم، يسجنون تحت اﻷرض في شيء أشبه بالبئر العميق، بينما في اﻷعلى ينطلق الناس أحرارا في سفاري وحفلات شواء ورحلات صيد.
الصيد! كيف إصطادوني وتركوا الباقين؟ ولماذا أنا دونا عن الخلق جميعا، وهناك آلاف مثلي يشجبون ويستنكرون ويعارضون بكافة السبل والوسائل؟!
الوسائل! هل هناك وسيلة للخروج من هذا الحيز الضيق؟ لقد استنفذ كافة اﻷشكال القانونية، وكان الرد أنها أوامر عليا لا يعلم من أين تأتي وأين منبعها؟
منابع! إنها تذكره بالسد اﻷثيوبي.. لا لا، فليعود للوسائل ويطرد فكرة السد.. السد هذا يوحي بالمكان.. هل يستطيع الهرب من هنا؟
لم يهرب في حياته قط من مشكلة واجهته، فالهرب شيم بن علي وصدام وأمثالهم من الديكتاتوريين الجبناء، أما الشجعان، فهم فقط من يواجهون مصيرهم ولو كان حتميا، ولو كانوا يعلمون سوء المنقلب.
المصير! إن كل من سٌجنوا في قضايا رأي يخرجون يوما ما، وهذا شيء مطمئن.. حتى مانديلا بعدما شاب قد خرج، لكنه لا يود أن يشيب هنا منعزلا بعيدا عن ابنته وزوجته وكل أحبائه، فالحياة التي يعتقدها مديدة وجميلة، مازالت تنتظره.. ويريحه ويكفيه أن يتذكر أن هناك أناسا يذكرونه دائما بالخير، كما تخبره زوجته.. تلك اﻹنسانة التي تقف ظهيرا له منذ البداية.. ويالها من ظهير يحميه من الضرب على بطنه.
ظهري! آلام الظهر من جراء النوم على اﻷرض تنهك قوى الجسد كاملا، خصوصا وأنه لا يرى الشمس، بل الشمس هي المحرومة من رؤياه.. يا لها من مسكينة تلك الشمس.
الشمس! كانت تلك آخر فكرة تزاوله.. إن شمس الحرية لابد وحتما سوف تسطع يوما حتى تٌصلي فوق جبينه بعد أن تتوضأ بعرقه.. بينما سوف يصلى سجانه لهيبها في نفس اللحظة، وسوف يحفر العرق مخرات تجاعيد في وجهه الصلد البائس، حين يمسي عجوزا عاجزا عن الفكر والحركة في نفس اللحظة.
اللحظة! لقد كبس عليه النوم، فالدماغ دائمة التفكير، التي لا تتوقف، هي دماغ مزعجة تزج بصاحبها للنوم من هلاك التفكير.
التفكير مرة أخرى! كان قد قرر سابقا ألا يفكر، ولكنه اكتشف للتو أن قراره بعدم التفكير هو مدعاة لزيادة التفكير!
وكان قراره أن يفكر.. لكن الفكر قاتل النوم، والنوم صارع الفكر.
وانتهى يومه عند تلك الخاطرة تماما، ويالها من نهاية لطيفة ليوم عاصف، فنام مبتسما، بينما سجانه ينام حاملا هموم ظلم اﻷبرياء بجوار النجوم على كتفيه.
النجوم! متى يستطيع إحصاء النجوم؟ كان حلم تلك الليلة قد رسم على وجهه ابتسامة طوال النهار، لم ترق لسجانه التعيس، فقرر ألا يوقف مجرى التفكير وتداعياته المتوالية المتهافتة.. إنها تحييه.