محمد ريشة يكتب: التسريبات وبناء المجتمعات

تناول الكثيرون قضية تسريب امتحانات الثانوية العامة من وجهات نظر مختلفة، ما بين معارض للغش بما يحمله من انحطاط أخلاقي وانهيار مجتمعي، وبين مؤيد لما يحدث، إما بدافع المصلحة والانتفاع من تسريب، أو بدافع الامتعاض من نظام تعليمي فاشل ووزارة متراخية هشة.

ولكن دعونا ننظر لما يحدث من جانب آخر.

ذلك الجانب الذي إذا ما ابتعدنا خطوتين للوراء نراه، ألا وهو النظام المجتمعي الذي كان السبب في كل ما يحدث.

فنحن كمجتمع فرضنا على أنفسنا أنه من كان من كليات القمة فهو منّا، ومن لم يستطع فقد سقط إلى شريحة مجتمعية أدنى في كل شيء.

فمن خلال تجربة اجتماعية صغيرة شملت بها أقاربي وأصدقائي، وجدت أن 9 من أصل 10 أشخاص يرفض أن يكون شريك حياته أقل منه في الشهادة التعليمية، فعلي سبيل المثال، المهندسون والأطباء بعضهم أولياء بعض، أما آداب وتجارة وحقوق وعلوم، فهؤلاء ليسوا منّا في شيء، ولا يحل لهم أن يفكر أحدهم في أن يطلب يد طبيبة، أو أن تحلم بأن يتزوجها مهندس!

علما بأن مديرتي في العمل -وهي مهندسة معمارية إيطالية الجنسية- متزوجة من نادل في أحد مقاهي ميلانو، وحياتهما سويا هي أصحّ من بيوت هشة كثيرة بنيت على أساس توافق مكاتب التنسيق في الثانوية العامة.

على صعيد آخر إذا نظرنا إلى الفئة الدنيا السابق ذكرها من كليات القاع، سنجد أنه لا يوجد أحد منهم يستفيد أي شيء من دراسته، ولا يستخدم شهادته الجامعية إلا في الأوراق الرسمية، وهو بعيد كل البعد في مجال عمله عما كان يوهم المجتمع بأنه يدرسه طوال سنوات دراسته.

وفي نفس الوقت، كثير من طلبة كليات القمة، لم يختر أن يدخل مجاله الدراسي بإرادته، ولكنه التحق بالهندسة فقط كي ينظر له المجتمع كمهندس، وليس محاسبا أو حاملا لليسانس الآداب -والعياذ بالله- مما يضّيع على المجتمع فرصة وجود طه حسين جديد أو نجيب محفوظ العصر الحديث، ليس لشيء سوى أن نجيب أصبح طبيب نساء وتوليد، وطه أصبح مهندس ميكاترونك.

أما الحرفيين فحدّث ولا حرج من أنه وصمة عار أن تكون فنّي كهرباء أو نجّارا أو سبّاكا، حيث إن المجتمع يعتبرك في شريحة أعلى من الخلايا وحيدة النواة، وأقل بقليل من بعض فصائل الفطريات والزواحف، مما تسبب في وجود شريحة من الفنيين لم يتعلم أحد منهم أي شيء سوى ما أخبره به \”المعلم شلاطة والأسطي بلحة \” في فترة تتلمذه كـ \”بلية\” في إحدى الورش، أو كصبيّ يقوم بعمل الشاي وإحضار الإفطار للمعلم أثناء \”السبوبة\”، ناهلا من علمه مطبقا لأصول صنعته دون الإلمام بأي تكنولوجيا جديدة في مجاله.. بعيدا كل البعد عن التطور العلمي الدائر في كوكب الأرض الشقيق.

وفي النهاية، يتوجّب على المجتمع أن ينهض بسواعد مهندسين فرضت عليهم الهندسةـ وأطباء حصلوا على درجتهم العلمية من أجل الزواج بطبيبات حصلن على درجتهن من أجل الزواج من أطباء، ومحامين وأدباء بحكم محكمة التنسيق، وفنيين وحرفيين لم يتعلم أحد منهم تقنيات عمله وأساسيات حرفته العلمية الصحيحة.

فحين تسمع عن خبر تسريب أحد الإمتحانات، فما عليك سوى أن تأخذ نفسا عميقا، وترشف رشفة من كوب قهوتك، وتطمئن قلبك على من لك في ثانوية عامة، وأخبره في أذنه هامسا:

\”ادرس ما شئت، ففي النهاية.. ستتزوج بشهادتك العلمية، وستحصل على وظيفتك بالحب\”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top