إن العالم يحتضر، ما هي إلا سويعات قليلة، عاجل أنباء جديدة، مواقف حادة، ضغوط تمارس، ساعات ويعقد المؤتمر ويتم الكشف عن التفاصيل الخطيرة، إنها النهاية، ما هي إلا أيام وتنطلق شرارة المعركة بين المريخ وزحل، رياح التغيير قادمة، انجوا بأنفسكم، محادثات جنيف تصل للمراحل الختامية، لكن روسيا تكشف عن مفاجأة مدوية، مقتدى الصدر يصدر بيانا يهدد باقتحام الخضراء، صدر هيفاء يثير مواقع التواصل.
طائرات روسية فوق سماء حلب تلقي الهدايا للأطفال، عاصفة الحزم تقوم باستطلاع خطير، ومصادر منافقة تتوقع بأنها معركة القادسية الثالثة، سليماني يصرح باكتمال الهلال، ويبدأ بمرحلة البدر الفارسي، حاخام يهودي يصرح بأن المنتظر على الأبواب، أمريكا تؤكد انحدار داعش في ظرف أيام، داعش يقول بإن معركة آخر الزمان اقتربت، تركيا تتوعد، إيران تنفذ، هاكر مغربي يخترق حساب فنانة عربية مشهورة ويهدد بنشر صورها بالملابس الداخلية، الفنانة ترد بالنفي فأنا لا أرتدي الملابس الداخلية، المريخ يقترب من الأرض، الأرض تقترب من الجحيم، الجحيم يحترق من نفاق العرب، حريق آخر يلتهم مكتبة الكونغرس، الكونغرس يلتهم العالم بقراراته، قرارات الأمم المتحدة مصابة بالشذوذ.
الشذوذ يعتبر النجاة من قاعدة الموت في يوميات الموصل وحلب، الحوثي يتقدم، سلمان يتراجع بفارق خسارة ثلاث مدن وأربع مجاعات بشعة، فصائل المعارضة السورية تقترب من دمشق، دمشق الأسد تقترب من السيطرة على الحياة، السيطرة تقترب من الفوضى، الفوضى تقترب من الانفجار، الانفجار العظيم يقترب لكنه لا ينفجر، والقضية تذبل والحدث الذي شغل الرأي العام والأطفال بالأمس، الذي كان إلى الساعة الثانية ونصف بعد حظر التجوال، يتسبب بتغيير مصير البشرية، وافتعال حروب فضائية أصبح \”لا شيء\” ذاب كأنه قطعة ثلج، واكتمل الروتين البائس ومع ذلك نعيد التفاعل مع هذا التصعيد، في اليوم والأزمة التالية، يا لها من تفاهة.
أصبح التصعيد في عالمنا، أكثر من كونه مفهوما واستراتيجية سياسية وعسكرية، ذات استخدام محدود، إنما شمل كل مناحي الحياة، فحتى الأخبار الفنية والرياضية أصبحت لا تذاع إلا وقد غمست نفسها بمستقنع التصعيد، فالحديث عن التصعيد في الواقع العراقي أو العربي لا يحتاج إلى استعراض، فهو واقع نعيشه يوميًا ينتهي كل مساء ويبدأ بشكل آخر في الصباح التالي، حتى تشعر أنك تتابع مباراة كرة قدم يعلق عليها \”رؤوف خليف\”، وليست نشرة أخبار لواقع مأساوي قذفت به بلا ذنب، تعيشه بلا إرادة.
إن هذا التصعيد في حقيقته، ليس عبثيا قط، أو خطأ فنيا، أو حتى نتيجة سخافة محرري القنوات الفضائية أو الصحف والمواقع الإلكترونية، للحصول على أعلى نسب المشاهدات، إنما تصعيد مفتعل متعمد تتم ممارسته من أجل الوصول إلى أهداف معينة، وإن كان يبدو لنا بصورة عشوائية أو كما نعتقد حصوله بشكل عفوي.
هذا التصعيد يعرف بـ\”فن صناعة الأزمات\”، وكذلك \”الإدارة بالأزمات\”، يعرفه الدكتور \”محسن الخضري\” في كتابه \”إدارة الأزمات\” بأنه: \”فن متكامل في حد ذاته، وهو فن قديم مستحدث للسيطرة على الآخرين، واخضاعهم وابتزازهم، مارسته الحضارات الغابرة، وعاصرته الأمم والدول الحديثة\”
ويضيف بأنه \”فن ذو طابع خاص، فن الغرف المغلقة، وفن المؤامرات والدهاليز السوداء، فن المصالح الرخيصة، فن اللعب بالعقول، وإقناعهم، والمتاجرة بهم من أجل شهوات الحكم والمال والثورة\”.
إذ يوضح في كتابه بأن فن افتعال الأزمات يتم عن طريق برنامج زمني محدد الأهداف والمراحل بشكل دقيق، التي وضحها في المبحث الأول، سواء مراحل هذا التصعيد واستخدامات كل مرحلة أو تكتيكاتها، أو أشكاله وطرق استخدامه.
لذا عزيزي القارئ ما تراه من تهويل سياسي/إعلامي يومي، ومن تصعيد يبلغ ذروته يأبى الانفجار، كله مدروس باحتراف، فلا شيء عبثي في السياسة، فما الحدث السياسي إلا فعل وردة فعل، والفعل لا يحصل إلا نتيجة تخطيط مسبق، أو نتيجة تحقيق غاية مضادة، وللفعل هذا مؤشرات تكشفه مهما حظى بسرية.
فالسياسة أبعد ما تكون عن المفاجأة والصدف، لذا لا تخدعك العناوين ولا حتى التصريحات، أو حدة المواقف، ولا تؤثر على مشاعرك الأحداث والأزمات السياسية، فالازمة التي أمامك ليس بالضرورة الهدف من افتعالها هو تحقيق الهدف الذي تدعي الوصول إليه، إنما قد يكون هدفا آخر، أو هي افتعال لتغطية الوصول لهدف آخر، أو أنها ضمن هدف ومخطط كبير وما هذه الأزمة إلا جزئية منه.. إلخ
فالضجيج السياسي الذي أمامك مهما كان يتضمن من تصريحات أو تحريك لطائرات وأساطيل، لن يعجل بنهاية القيامة، ولن يخلق واقعا جديدا بين ليلة وضحاها، هذه سياسة، وليست كيمياء حتى تكون النتائج والتأثيرات فورية، لذا حاول عقلنة ما تسمع وترى من أحداث، وانظر بنفسك إلى الواقع الذي تعيشه، وحاول أن تتذكر آخر حدث أو أزمة بلغت تصعيدا عاليا، ثم قارن التأثير الذي أحدثته فيك وكيف انتهت وكيف كنت تنظر إليها آنذاك، وكيف تنظر الآن، وهكذا الأمر مع الأزمات والتصعيد القادم، فإياك أن تقع ضحية هذه السياسة القذرة والاستراتيجية البائسة، من باب الحفاظ على مشاعرك، لا لدورك في التأثير على الأزمات، فأنت كائن عربي بالمحصلة، كما لا تنس بعد سنة من الآن أن تعيد قراءة هذا المقال!