محمد ربيع يكتب: الذاكرة المشوَّهة

هل كان ذلك في منتصف الثمانينيات؟ في آخرها؟ لا أذكر.. الأكيد أن البداية كانت في مدينة الرياض.

كان ذلك عصر الفيديو، شريط ضخم أسود تضعه في جهاز أضخم ثم تستمع إلى أصوات البكرات البلاستيك وهي تدور ليبدأ الشريط في اللف، وتظهر الصورة على التلفزيون.

لم تكن هناك سوى قناتين تلفزيونيتين، القناة الأولى وتبث برامجها باللغة العربية، والقناة الثانية وتبثها بالإنجليزية، هناك برامج للأطفال وأخبار وأفلام أجنبية، لكن لا أفلام عربية على الإطلاق.

طيب، ها أنا ذا، طفل في العاشرة، ولا شيء يشغلني، فلم أتعرف على هوس القراءة بعد، ولا أصدقاء ولا شارع يصلح للمشي والتصعلك، كلها تابوهات منعني منها سني الصغير. ولم يكن هناك سوى الفيديو.

بشكل عام، كنَّا -أنا وأبي- نزور نادي الفيديو كل أسبوع، نؤجر شريطًا أو اثنين، نشاهدهما -مع أمي وأختي- خلال الأسبوع، وهكذا لم تكن لدينا متعة سوى الفرجة على الأفلام الجديدة نسبيًا (أفلام الثمانينات كانت رديئة حقًا).

ثم كان الحدث الهائل.

كل ما أعرفه، أن أبي قام بتسجيل فيلم عربي قديم، تم بثه عبر القناة الأولى، في حادث قد لن يتكرر -وربما لم يتكرر- أبدًا. أعرف أن أبي لم يعرف بميعاد عرض الفيلم على التلفزيون السعودي، الذي لم نعتد أن يعرض أفلاما عربية قط، ولاحظت بعد ذلك أن شريط الفيديو لا يعرض تيترات الفيلم منذ البداية، وإنما تظهر أسماء الفنيين فجأة، دون أن تظهر أسماء النجوم اللامعة المشتركة في الفيلم، لاستنتج أن أبي قد ضيَّع وقتا قصيرا جدا، حتى وجد شريطا يصلح لأن يسجل عليه فيلم \”سي عمر\” لنجيب الريحاني.

بالتأكيد كانت جودة الشرائط عالية للغاية في ذلك الوقت، فقد استمر الشريط صالحا للعمل لسنوات طويلة، لا أذكر متى اختفى، أو متى لاحظنا أنه اختفى. ربما لم نفقده قط، وربما هو لا يزال هناك في مدينة الرياض، في صندوق قديم أو وسط أثاث يعلوه التراب.

شاهدت فيلم سي عمر عشرات المرات، لا، بل ربما مئات المرات، كان رفيقي حينما كان التلفزيون السعودي مملا، كان صديقي حينما لم أجد شرائط أخرى جيدة. وكان لا يزال ممتعا حتى بعد ظهور القنوات الفضائية. ولم أجد هوسي بمشاهدة الفيلم مرارا وتكرارا شيئا غريبا، بل وكنت أظن أن كل من أعرفهم يفعلون الشيء نفسه.

مع الوقت، تسرَّب الملل إلى الجميع، صار الفيلم يشتغل دون أن نلتفت إليه، مثل الراديو الذي نشغله في الصباح مستمتعين بضوضائه المتذبذبة، ولا نقفله إلا في آخر النهار. لكني حافظت على حماستي غير المنقطعة لفيلم \”سي عمر\” حتى اللحظات الأخيرة، حتى بعدما انصرف الجميع عنه كنت مشاهدا مخلصا.

لكن الحماسة تموت في النهاية، وبدأ ذلك عندما لاحظت أن أحداث الفيلم غير منطقية، بعضها غير مفهوم. كنت بحاجة إلى كشف هائل حتى أفهم السبب. وكان لابد أن أنتظر سنوات أخرى، وأن أكون في بيتنا القاهري، في إجازة الصيف، حتى ينكشف سر فيلم \”سي عمر\” غير المفهوم.

ربما كنت في العشرين حينها؟ كل ما أعرفه أن زمنا طويلا جدا قد مرَّ عليَّ وأنا أشاهد سي عمر على شريط الفيديو الذي سجَّله أبي في الرياض. ولمَّا عرض التلفزيون المصري الفيلم نفسه، قرَّرت أن أتفرَّج عليه، على سبيل استعادة ذكرى الفيديو والشريط وبيتنا في الرياض. لا شيء أكثر.

بالطبع كانت جودة الفيلم أعلى، كانت الصورة أنقى والصوت أكثر وضوحا. وللحظة مرَّ على عينيَّ مشهد لم أميِّزه، لم أرَه من قبل. تجاهلت الأمر، إلى أن مرَّ مشهد آخر لا أعرفه. أنا الذي ظللت لعشر سنوات أشاهد الفيلم أسبوعيا لا أستطيع تمييز عدَّة مشاهد؟ هل هذا معقول؟ ومع المشهد الثالث أدركت الحكاية كلها.

كان مقص الرقيب قد قطع مشاهد عديدة من النسخة التي سجَّلها أبي في الرياض.

تخدَّرت أطرافي، وأنا أدرك رويدا رويدا أن النسخة المحفورة في ذاكرتي مشوَّهة، ناقصة، لا يعوَّل عليها. ولا يمكن أن يكون الفيلم مفهوما دون هذه المشاهد المحذوفة. كل قبلة وإن كانت أخوية حُذفت، كل عناق بين حبيبين تم إلغاؤه، كل مشروب كحولي تم إزالته، كل ورقة كوتشينة تم قطعها بحزم. وهكذا لم أشاهد مشهد المعركة في البار، واحتضان الفاتنات لنجيب الريحاني (عن حب أو عن رغبة في الإيقاع به)، والحوار الممتع بين عبد الفتاح القصري ونجيب الريحاني على مائدة الطعام والخمر بينهما، ومشهد لعب القمار بين سابقي الذكر وعبد العزيز أحمد (كوارع).

هذه المرَّة، تابعت الفيلم حتى النهاية، مستمتعا بكل تفصيلة، مرددا مع الأبطال كل جملة حوار كنت قد حفظتها عن ظهر قلب خلال السنوات الماضية، مجمعا كل الأجزاء المحذوفة في ذاكرتي. وأدركت أني كنت أشاهد فيلما آخر جديدا.

بعد النهاية، قمت ونزلت إلى الشارع.. مشيت وأنا أفكر في مدى فاعلية نظام الرقابة في السعودية. وأخذت أتساءل، لماذا لم ألعب القمار حتى اليوم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top