بعد محاكمتين، قرّرت محكمة استئناف شمال القاهرة حبس أحمد ناجي مدة سنتين، لأن هيئة المحكمة رأت أنه خدش حياء أحد المواطنين.
ما سبق ملخص بسيط لما حدث، لكن لحكم المحكمة أبعاد أخرى أكثر وأعمق.
المواطن تقدّم بشكواه لأن بناته غضبن حينما قرأن ما نُشر في جريدة أخبار الأدب، وهو الفصل المقتطع من رواية أحمد ناجي \”استخدام الحياة\”، ولهذا قرّر أن يستغل حقه القانوني وأن يرفع دعوى قضائية عن طريق النيابة العامة، متهما أحمد ناجي وطارق الطاهر – رئيس تحرير الجريدة – بخدش الحياء.
المواطن لم يرَ أنها تهمة مطاطية مضحكة، ولم يفكّر لحظة في فداحة أن مجرّد كتابة كلمات تُلزم الدولة بحبس كاتبها وسلبه حريته. وأكمل وكيل النيابة حراك المواطن الحماسي، مدافعًا بشراسة عن حقهما في سلب المتهمين حريتهما، رأيته في المحاكمتين يأخذ الموضوع برمته على محمل شخصي، لا كموظف في الدولة يفهم جيدًا التوازنات التي تجعله يحفظ دعوة ما أو تجبره على تحريكها، لكن كمحتسب يؤمن بأن السبيل الوحيد لقيام دولة الأخلاق الحميدة هو حبس من يخالف مسارها العام.
جرت وقائع المحاكمتين وسط سيل من الحديث عن تردّي الأخلاق في مجتمعنا، وخطاب متصل يعلن أننا نفتقر إلى الأخلاق القويمة، وأن المجتمع يعيش أزمة أخلاقية. نعم، أنا شخصيًا أرى أننا نعيش أزمة أخلاقية حقيقية، أساسها السكوت على ظلم الظالم، والانصياع لكذب الجبار، واغتيال الضحايا معنويًا، وتمجيد الباغي، بل وإعلانه وطنيًا مخلصًا، ولا تزال هذه الأزمة تتضخّم حتى وصلت إلى مدى بعيد، عندما رأينا مواطنًا يطالب بحبس مواطن آخر بحجة أنه خدش حياءه!
بكل صدق، لقد خدش هذا المواطن نفسه حيائي أنا، وأخل تمام الإخلال بحريتي الشخصية – ما سأهب حياتي دفاعًا عنها – حينما طالب بتقييد حرية مواطن ثالث، وتردّى هذا المواطن في بحر من انعدام الأخلاق حينما ادعى كاذبًا أن حياءه قد خُدش بكلمات قرأها، ذلك لأن تلك الكلمات ذاتها لم تخدش حيائي حينما قرأتها، بل رأيتها كلمات ساخرة وسوداوية، تصف حالنا بمقدار من المبالغة والخيال، وهو هدف الكتابة دائمًا.
وإذا اتبعتُ المنهج نفسه فمن حقي أيضًا أن أقيم دعوى على المواطن المخدوش، مدعيًا أنه أصابني بضرر نفسي عميق لمجرد أنه تكلّم واعترض، وسأترك الأمر في النهاية بيد القاضي، الذي قد يحكم بالحبس على المواطن المذكور إن استطعتُ إثبات ما ادعيته.. أليس هذا مسارًا كارثيًا، هل هذه هي الأخلاق التي تودون أن تسود؟
ولأني أؤمن بأن من حق أي إنسان أن يقول ما يريد، ولأني على يقين بأن الناس لن تعيش في سعادة إلا إذا قالوا ما في قلوبهم من دون خوف، ولأني سأدافع عن حقي في الكلام بكل ما أوتيت من قوة، كما سأدافع عن حق أي إنسان في الكلام بالقوة نفسها، لكل ذلك لن أقاضي المواطن المخدوش، بالإضافة إلى أني لا أود أن أبدو ساذجًا متهافتًا مثلما بدا هو خلال الشهور الماضية.
وأود أن أقطع الطريق على المزايدين الكثيرين، وأعلن أن مكتبتي مفتوحة لابنتي في أي وقت، ومع أنها في الخامسة وتسير بصعوبة في طريق تعلم الكتابة، إلا أني سأكون فخورًا وحريصًا على إطلاعها على ما كتبتُ وما قرأتُ، حينما أرى أنها مؤهلة لذلك، وسأكون في غاية السعادة لو علمت أنها بادرت واهتمّت بالاطلاع والقراءة من دون علمي، أو قبل أن أقترح عليها ذلك. وكلي أمل في أن تفهم ما لم أفهمه، وأن تصبر صبرًا جميلًا على ما تركته بدافع الملل، وأن تفلت تمامًا من أسر الرجعية والانغلاق الذي يسيطر عليّ من حين لآخر.
أسير في هذا على نهج أبي، الذي كان صارمًا في أشياء لا تُحصى، لكنه لم يمنعني يومًا من الاطلاع على ما في مكتبته، وفيها ما فيها، بل كان طوال الوقت مشجّعًا لي في كل ما يتعلّق بالقراءة. ولم يحذّرني أبدًا من قراءة ما يراه بعض المواطنين خادشًا للحياء، ولم يمنع عني كتابًا أو جريدة أو بحثًا، ولم يعنّفني عندما كنت أسأله عن ما يخالف رأيه أو دينه أو علمه، بل كان دائمًا متفهمًا لقصوري، حريصًا على تبسيط أصعب الأمور عليّ. ذلك النهج الذي أدين له بالفضل التام.
أنا متضامن مع أحمد ناجي وطارق الطاهر إلى آخر مدى، وأقرّ وأعلن بأنني خدشتُ الحياء مثلما فعلا تمامًا، وإن كانا مذنبين فأنا مثلهما، ولذلك أرى أن العقوبة ذاتها يجب أن تطبّق عليّ أيضًا. إن رأي الدولة المحافظة خاطئ تمامًا في هذه القضية، التي تظن أن العقوبة قد تثير الفزع وتجبر المرء على التراجع، فقيد الجسد لن يكبّل العقل أبدًا، والحبس لن يمنع الكلام.
يُنشر هذا المحتوى في إطار حملة مشتركة بين مواقع \”زائد 18\”، و\”مدى مصر\”، و\”قل\”،و \”زحمة\”. للتضامن مع الروائي أحمد ناجي.