في مشهد لم يخطر في أحلامي، وجدت نفسي في إحدى ساحات العاصمة الألمانية برلين يوم 14 من يولية الماضي، احتفل مع الألمان بأول فوز لهم بكأس العالم بكرة القدم منذ ربع قرن، وهي كأس زاد من \”غلاوتها\”، أنها الأولى التي ينتزعها فريق أوروبي ، بقوة بل بوحشية، من بطولة تقام بإحدى دول أميركا اللاتينية، وأي دولة؟ البرازيل، التي سحقها الألمان في قبل النهائي، بسباعية لم يجرؤ أحد على مجرد تخيلها، قبل أن \”يخلصوا \” في النهائي على الأرجنتين.
الليل يتقدم في ساحة إلكسندر بلاتزا وأنا أدور مع الجمهور وأًصوّره مبتهجا ومستعدا لقضاء ليلة حافلة حتى الصباح، وإذا بصديقي المترجم الكبير سمير جريس، المقيم في ألمانيا منذ أكثر من عقدين، يلمس ذراعي مذكرًا إياي بأن \”ألحق آخر مترو\”.
– آخر مترو؟ هو المترو النهاردة مش للصبح؟
– شكلك لسة ماتعرفش الألمان يا محمد.
هكذا أجابني سمير، وبالفعل، خلال دقائق، ومع موعد المترو الأخير، في حدود منتصف الليل، إذا بالغالبية الساحقة من المحتفلين في الشوارع، يندفعون بالبهجة ذاتها، نحو محطات المترو، يملأونه على آخره مواصلين الغناء والاحتفال، بينما وضعت إدارة المترو تهنئة بسيطة بحروف ضوئية على شاشتها، وحين وصل المترو الأخير كان الجميع قد استقله ليذهب إلى البيت، فنحن في وسط الأسبوع، وعلى الجميع أن ينام ليستيقظ باكرا إلى العمل، حتى لو كان قد فاز لتوه بكأس العالم.
عدت في المترو إلى محطتي \”فانسيه\” البعيدة في آخر الخط، خرجت في الهدوء والظلام، بجوار المحطة مقهى يلملم كراسيه ويغلق أبوابه، ذهبت إلى المبيت، الكل نائم أو لا صوت له.
متى سيحتفلون إذن؟
بعدين، في الويك إند.
بعد المباراة بيومين، انتشرت صورة ضاحكة من قسمين للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، في الأولى تبتسم وتقول: هييه لقد فزنا، ثم تعود في الصورة الثانية إلى تعبيرها الصارم قائلة: والآن عودوا إلى العمل.
كنت قد رأيت ذلك بنفسي حرفيا، باستثناء أن ميركل لم تكن في ألمانيا ، بل كانت في ريودي جانيرو تحضر مباراة النهائي وتسليم الكأس، ولكن الألمان لم يكونوا يحتاجون إلى وجودها ليعودوا إلى العمل.
لم أكن، يوم مباراة النهائي قد أكملت عشرة أيام في زيارتي الأولى إلى ألمانيا، لمنحة أدبية رشحتني إليها الناشرة العزيزة كرم يوسف، في تلك الأيام العشرة، تحولتُ من تشجيع الألوان الأقرب إلينا.. ألوان الوجوه – السمراء- إلى ألوان الفانيلات –اللاتينية، كنت أتابع – كمصري أصيل – أخبار مصر يوميا عبر فيسبوك، وكنت كأصحابي وأهلي وجيراني، متعاطفا أولا مع فرق إفريقيا، ثم انتقلت فورا لتشجيع البرازيل والأرجنتين على التوالي، ورغم التألق الألماني اللافت من بداية المونديال، وحتى بعد السباعية الإعجازية للـ\”ماكينات\” في مرمى البرازيل في عقر دارها، كنت أرى \”التايم لاين\” الخاص بي، معظمه يشجع أو ينتوي تشجيع الأرجنتين في النهائي.
ليه طيب؟
نحن لسنا أرجنتينيين ولا حتى لاتينيين، ثم إن الأرجنتين، لم تكن إطلاقا وبتاتا أفضل أو حتى بمستوى الألمان في هذه البطولة، فلماذا فضل معظمنا أن يشجعها؟
\”عشان شبهنا\”.. تلك كانت معظم الردود والتعليقات.. ثمة رابط ما مع كرة أميركا اللاتينية، مبعثه الإحساس بأنها شعوب عالم ثالث تستطيع أن تتفوق في مضمار الكرة على الأقل، على الأوروبي الشمالي الغني.. ثمة توحد شعوري يتحقق في مواجهة \”حكام العالم\”.
لكن الألمان، لا يحكمون العالم.. أمريكا تحكم العالم وهي \”غلبانة \” جدا في كرة القدم، ثم إنه حتى لو كان الأرجنيتيين غلابة وعالم ثالث، فإن نجوم منتخبهم مليارديرات تماما كنجوم ألمانيا.
بصراحة.. فقدت حماسي ولم أجد منطقا – للمرة الأولى – في تشجيع الأرجنتين، التي، على عكس الوصول الألماني الكاسح، وصلت النهائي بمباريات الواحد صفر والصفر صفر وركلات الترجيح.
إذا شجعتها، فإني لم أكن أشجع حتى \”اللعبة الحلوة\”التي غابت عنها في تلك الدورة. وجدت أن غياب أسباب \”كروية\” لتشجيع فريق ما، يفتح الباب للأسباب الشوفينية، وحتى العنصرية، حين تشجع هذا لأنه \”أسمر\” مثلك، أو لأنه \”عربي\” أو أفريقي\” ،،إلخ.. بغض النظر عن مستواه.. لم يكن هذا جيدا، ولا \”طبيعيا\”.
رأيت – للمرة الأولى أيضا – تشجيع الألمان – في هذه الدورة على الأٌقل- طبيعيا أكثر بكثير.. تشجيع الدقة.. الكفاءة.. العمل.. الانضباط.. الجدية.. التخطيط، والأهم، أن هذا كله، يخضع إليه، أول من يخضع، الألماني نفسه، الذي ينام ليستيقظ مبكرا حتى في ليلة فوزه بكأس العالم.