عزيزي المحب للسينما, قبل أن تشتري بضاعة يجب أن تتأكد من جودتها وعدم زيفها, خصوصاً في السينما, في الأول والآخر المخرج الذي يصنع أي عمل – خصوصا في السينما الأمريكية – يعرف كيف يبهرك, ربما كان مخرجا موهوبا في السابق (ومازال)، لكن في لحظة ما لأنخفاض الوحي بالأفكار الجيدة, يكرر العناصر التي لمعت مع الجمهور في الماضي في صيغة جديدة, بلامضمون قوي أو عمق في التناول.
لو قيمنا أعمال المخرج كريستوفر نولان الذي أعتبره واحد من أفضل المخرجين الذين جمعوا بين جودة العمل الفني وتجاريته, هل رأيت فيلم the prestige ؟ تلك الحبكة المحكمة شديدة التعقيد, السيناريو نفسه تطوراته معقدة ومحكمة, السيناريو من حيث الصنعة هو معقد ومشوق ومثير, هو لم يدخلك في معلومات شديدة التعقيد للإبهار أو أي مؤثر خارجي على الأحداث (كألفاظ سحرية معقدة تستحق البحث لفهمها), فقط السيناريو الذي يجعلك تصفق أحيانا لكاتب العمل ولمخرجه المبدع الشاب, إنه استطاع أن يوقفك على أصابع قدمك من شدة الإثارة والغموض وعدم الفهم, وفي فيلم the dark night الذي أعتبره من أهم الأفلام التي ناقشت مفهوم العدالة والقانون في الدولة الحديثة, وأهمية الحفاظ عليها وخداع الجماهير بفضيلتهم, ومناقشة فوضوية الجماهير, يبدو ذلك واضحا في شخصية الجوكر العظيمة التي أداها الممثل الراحل العظيم هيث ليدجر, في فيلم inception مع واحد من أفضل الأفلام تعقيدا في أحداثه وفي كتابة السيناريو الخاص به, أتعجب كيف أستطاع نولان تجميع هذه الأحداث المعقدة في هذا الفيلم , بالإضافة إلى أن الفيلم استمرار لسؤال الفرق بين الحلم والحقيقة, الحقيقة أن نولان لديه أفلاما عظيمة تجاريا وجيدة فنيا, وبضاعة نولان الأقوى هي تعقيد السيناريو والأحداث، بمعنى أن تطور الأحداث في ظروف عادية أو شبه عادية, يصنع عالما شديد التعقيد، خصوصا في مشهد النهاية الذي تحتاج فعليا لإعادته أكثر من مرة لتفهمه وتستوعبه.
Interstellar وأدعاء التعقيد:
علي عكس أغلب افلام نولان السابقة، يعد فيلم interstellar به الكثير من الإدعاء, شاهدت الفيلم بعد التقيمات الممتازة والأنبهارات الكثيرة, سواء من محبي السينما أو من محبي العلم, انتظرت إبداعا مهولا، خصوصا أن رصيد نولان عندي يسمح بهذا التوقع, وعندما شاهدت الفيلم، بدا لي من اللعز الأول فيه أنه لغز (فكسان), هو يعطي في بداية الفيلم تساؤلا ضخما عن خيال الشخص والأثر الذي تراه ابنة كوبر.
عزيزي المشاهد.. عليك أن تعلم أنك تشاهد فيلم خيال علمي, من سمعته يبدو أنه خال من العفاريت, وبالتالي ابنة كوبر ما تراه ما هو إلا جزء من احتمالات بسيطة (إنه يكون خيالها هي.. إنه يكون خيال كائن فضائي – تأثير الجاذبية – خيال أبيها ) لاحتمالات أخري بأعتباره لن يكون عفريتا أو جنيا.
الفيلم من بدايته يظهر مشاهد، كأنها لقاءات تليفزونية مسجلة مع رجال ونساء مسنين, يتحدثون عن العواصف الترابية التي أصابت الأرض في السابق وتعرضها للهلاك المحتمل, لم أسترح لهذا الجو الوثائقي الشديد, ليس هناك أبداع نولان الذي اعتدته, ولا حتي طريقة لمخرج تقليدي في الإخراج, كأن أمامه مأزق يريد الخروج منه، فقام بعمل مجموعة المشاهد الوثائقية.
تجربة تأملية مع مشاهد الفيلم:
عزيزي المشاهد.. إن كنت من محبي العلم وتريد مواكبة آخر ما توصلت له العلوم الفلكية, فنصيحة لك، تابع سلسلة cosmos للعالم نيل تايسون, هي سلسلة وثائقية مقتبسة من سلسلة وثائقية أخرى قدمها كارل ساجان, هدفها تبسيط العلم لاستيعاب الشخص العادي لكل ما يخص نظريات الكون, السلسلة مشوقة حتى إنك ستنهيها بسرعة, وستنتظر موسمها الثاني بشوق شديد, وعندما تنهيها ستكون علمت كل شيء تقريبا يحدث في فيلم interstellar من نظريات علمية, عندها أظن انك ستدرك الوهم والادعاء الذي صنعه لك نولان, الفيلم تعقيده في أنه يذكر لك مصطلحات علمية لا تعرفها, لكن حين يتوفر مصدر سهل لمعرفتها، فعندها ستكون الحبكة الدرامية والأحداث لا شيء, مجرد فيلم خيال علمي آخر لا يرغب سوى في الأمتاع البصري, قصته تتلخص في أن الأرض تعرضت لشيء سيؤدي لانهيارها, يحاول بعض الأخيار علاج هذه الأزمة, ويضحي شخص بذاته من أجل ابنته ويتلقى الأهوال في الفضاء, ويمر على كواكب كثيرة, وفي النهاية, يعود لابنته سالما غانما, مع الفرق فقط في موضوع السن نتيجة قانون علمي مستخدم.
Interstellar وماما أمريكا:
الذي يؤكد نظرية أنك تشاهد فيلم خيال علمي تجاري أمريكي آخر, دور أمريكا في إنقاذ البشرية, من المؤكد أنني كنت مراع أنه فيلم أمريكي, وأن مخرجه مخلص لدور وطنه في تحقيق السلام للبشرية (أو هذه تصوراته), أفهم كل ذلك, لكن عندما لا يكون للعالم كله أي دور في محاولة إنقاذ الأرض هذه؟
هل أمريكا فقط هي من تبحث عن إنقاذ الأرض؟ هل العلم المتطور في أمريكا فقط؟ هل وكالة ناسا لا يعمل فيها سوى الأمريكان فقط حتى تكون خالية من أي عنصر أجنبي في الفيلم ؟
كل هذه الأسئلة دلس الفيلم في إجابتها كأي فيلم خيال علمي في مرحلة الحرب الباردة, حتى كدت أرى المخطط السوفييتي لمحاولة إفشال إنقاذ الأرض.
Interstellar وبعض المميزات:
الفيلم لم يخل من بعض المميزات، لا انكر ذلك, طبعا الجرافيك مميز جدا, وثانيا والأهم موسيقى المبدع هانس زيمر التي تعتبر العنصر الأكثر تميزا ودرامية في الفيلم, مازال هانس زيمر يبدع, وكان هذا العام يستحق الأوسكار بلاشك عن الموسيقى، لكن كان للجنة رأي آخر.
من حيث الأفكار، فلم يطرح غير فكرة ربما تستحق أن تناقش بجدية في الفترة القادمة, وهي مرحلة الخروج من الأرض كمرحلة واجبه لإنقاذ الإنسانية من الانقراض.
عزيز المشاهد.. لا تنبهر بنولان هذه المرة.