أعتقد أن كل شخص يفهم أي عمل أدبي أو فلسفة أي أديب من وجهة نظره, أو بمعنى أصح ما يريد أن تكون وجهة نظره, فمثلا الباحث عن الله الذي يريد الوصول له, يريد اختصار المسافات والوقت والجهد والتعب النفسي وإقناع نفسه في النهاية أنه وصل للإيمان الكامل, يستعين بمصطفى محمود إذا كان قليل القراءة, وإذا كان من متوسطي القراءة والإطلاع, سيكون من أمثلته بكل تأكيد نجيب محفوظ, أما الذي يريد الوصول لنقطة أن الحياة بلا معني وعبثية ولا يجب الاكتراث أو الاهتمام بشيء, أحيانا هذه النتيجة يكتفي من وصل لها بمنتدى الملحدين العرب كمصدر لتأكيد هذا الأعتقاد -الذي يريد الوصول له من البداية غالبا- وعندها يبدأ طريق رواية ثرثرة فوق النيل لنجيب محفوظ أو كما قال برتراند راسل, يبدأ طريق الخمر والمخدرات لمحاولة الشعور بالسعادة مقابل القلق الذي يسيطر عليه, وفي النسخ المثقفة من العدميين يستعينوا بما يظنوه فلسفة ألبير كامو, يجب التوضيح في البداية أنني لا أقلل من وجهتي النظر سواء المستعينة بإيمانية نجيب محفوظ أو بعدمية ألبير كاموا, فواجب على أي شخص قبل أن ينتقد أي ظاهرة أو نمط أن يعلم أنه لكل منا تجربته الخاصة في الحياة, والصدف التي أدت لنضجه وسيرت نضجه في إتجاه ما.
نجيب محفوظ وشكل الإيمان عنده:
تجربة إيمان نجيب محفوظ، هي أول تجربة تكسر اعتقاد المرء الباحث بسرعة الوصول للإيمان, فتجربته الإيمانية بدأت من أول أعماله لآخرها, شاهد نضج نجيب محفوظ وشاهد صراعاته في رواياته, هذا الرجل خاض بكل شجاعة تجربة طويله, لم يعلن في النهاية أنه وصل للحقيقة, لكنه أعلن انه آمن، لأنه يشعر بالله في قلبه وليس في عقله.
من هذه النقطة يبدأ أستغلال البعض لنجيب محفوظ على اعتبار أن نجيب الحكيم وصل لله، فبالتالي هم لديهم نفس الشعور القلبي بالله، فسيتبعوا ما أمرهم به, رأيت الكثيرين يعتمدون على نجيب محفوظ في تدعيم الإيمان التقليدي المنتشر في مصر, مع التنقيح من بعض المظاهر السلفية, لكنه في النهاية لا يخرج من الرؤية التي تسمح بها المدارس الاسلامية التقليدية في النهاية, فالإيمان عند هؤلاء الأشخاص طالما اقتنعوا به فهو إيمان كما أنزل, أو بمعنى أصح لا ينتقلون للمرحلة الثانية التي هي الجزء الأهم فيما توصل له نجيب محفوظ، وهو ما شكّل الإيمان, ربما يكون في عقليتهم أن الإيمان مرادف للإسلام التقليدي بحكم أننا ولدنا في مناطق محافظة, في وقت فرضت التيارات الدينية المتشددة على المجتمع مفهومها الديني, بل وجعلته الدين الرسمي للدولة عن طريق بوق الدولة الديني (الأزهر).
الله عند نجيب محفوظ هو معنى شديد الرقي, هو ليس مجرد إله تعبده لتشكره, ليس بينك وبينه رد جميل معين أو فضل معين, الله هو موجهك والصديق الحنون عليك الذي تحتاجه في كل كبوة وفي كل فرح ومسرة, هو معك وفي كل لحظة يشعر بك, يرسل لك الرسائل, وأنت تجلس لترد له رسائل المحبة والوصال, هو السلام في الأرض, طاقة الحب والجمال, هو نصيف المظلومين ومحرضهم ضد الظالمين, هو الذي يجعلك مرتاحا وسعيدا حين تفعل الخير, والذي يؤنب ضميرك ويوقظك عندما تقع في الإثم.. النار والجنة ليسا المعيار الذي يجب أن تأخذه، فلكل حادث حديث, الله هو المعنى, هو شعورك أن حياتك ليست وهما, وأن البشرية تبحث عن هدف.
أما اذا أردنا تقريب مفهوم العبادة لأذهاننا, فالعبادة عند نجيب محفوظ تتمثل في الشيخ عبد ربه التائه, الشيخ التقي التائه منذ شبابه حتى شاخ, يجلس مع الأتقياء المحبين يشربون الخمر ويذكرون الله, ويتكلمون عن النساء وجمالهم, وجميعهم يحبون ملذات الحياة, وتعبدهم هو تحقيق ملذاتهم, لا يجلس مع الشيخ غير المؤمن بقيمة اللذة والحب, الله هو أول الفرحين بعباده المحبين.. إنه نصير العشاق في كل زمان ومكان.
ألبير كامو ومواجهة النيهلية nihilism:
لاشك أن بعض العدمين المثقفين يستخدمون سيرة ألبير كامو كمثال للرجل العدمي المؤمن بعبثية الحياة, لكن يعتبر ألبير كامو من مواجهي كل مظاهر لا أكتراث الإنسانية بذاتها أو تدمير ذاتها , سواء بشكل جماعي أو فردي.
بعد أعلان نيتشه موت الإله وانهيار القيم والأخلاق, انتشرت هذه الأفكار بين الفلاسفة، وكان لها العديد من المدافعين, وحاولت بعض المدارس الفلسفية التصدي لها, حيث تمثل العدمية نهاية العالم (قبضة الريح) كما كانوا يسموها, وبالتأكيد هي دعوة مبطنة للانتحار على مستوى ذاتي.
وبالتالي السؤال الذي طرح نفسه: هل ينبغي التمسك بالحياة من الأساس؟
يؤمن ألبير كامو بعبثية الحياة, لكن يرى هذه العبثية بداية لصناعة المعنى والحياة، وليست نهايته, فالعبثية تعطي قدرا من الحرية (العقيمة) التي هي بلا أمل, فأنت غير محاصر بمذهب أو أيدلوجيه تعطيك الأمل في شيء, فقط أنت تجرب بذاتك وتتمرد, يضرب ألبير كامو مثالا على ذلك (بالرجل الذي يسير يومه الأول بطريقة معينه ويومه الثاني مثل الأول والثالث مثل الأول والثاني وهكذا, لكنه قرر في يوم تغير طريقه أو طريقته), يرى كامو أن العبثة الإيجابية تبدأ بفقدان الأمل بالوصول لنتائج معينة يبشر بها مذهب معين, والتمرد على كل أشكال الظلم التي هي في غير صالح الإنسان.
ويرى ألبير كامو أن هناك نوعين من التمرد تقوم بها البشرية, الأول هو تمرد الإنسان على الإنسان ضد ذاته, والثاني هو تمرد الإنسان على الإنسان من أجل ذاته, والنوع الثاني من التمرد يعتبره هو الذي يصنع التاريخ, فتمرد الإنسان على ذاته ضد ذاته، مثل الذي يستغل وجود هدف أسمى أو عاطفة ما لإحداث العديد من المجازر من أجل تحقيق هذا الهدف الأسمى, هكذا تحدث أغلب مجازر القتل الجماعي باسم أهداف سامية, ويرى ألبير كامو أن هذه المجازر تنتصر للنيهلية, أما تمرد الإنسان على الإنسان من أجل ذاته مثل ثورات العبيد والمقهورين والثورات من أجل الحرية, هذه النماذج من الثورات هي التي تصنع التاريخ للإنسان وتجد للحياة معنى.
المشترك بين نجيب محفوظ وألبير كامو أن الاثنين كان شغلهم إيجاد المعنى وإيجاد الإنسان لذاته وليس محاربة الإنسان لذاته, سواء بالإيمان بالله أو الإيمان بالعدم, كلاهما لحظة من أجل إيجاد الإنسان لذاته وأن الحياة نحن نصنع معناها.