كنت احاول تحديد اللحظة التي تحول فيها فيسبوك عندي من أداة للتعارف على البنات والتهريج مع الأصحاب، إلى أداة للتواصل الاجتماعي بالمعنى الواسع، أي أن تحاول توصيل رأيك لأناس لا تعرفهم، وأن تسعى لمعرفة آراء ناس لم تقابلهم في حياتك من قبل.. آراء ليس من ضمنها تعليق اللووووووول الشهير، ولا أن صورتك تبدو رائعة مع تان الساحل، وكذلك تهاني الزواج وأعياد الميلاد والنميمة على وزن \”بيبو طرقع جيجي\”.
نتحدث عن اللحظة التي تحول فيها فيسبوك إلى محيط شاسع باحتماليات تواصل تتخطى فواصل النوع والمكان والمستوى الاجتماعي.
بالطبع لم تنكسر هذه الحدود نهائيا، بل ساعد الفيسبوك على إنشاء فواصل من أنواع جديدة، لكن مستوى التواصل الذي أتاحه فيسبوك فاجأني شخصيا بمعرفة أن هناك الكثير الذي يمكن الاتفاق به مع مهاجر مصري يشعر بالملل في السويد.. مراهق في سايبر بالمطرية.. فتاة في الحزب الوطني لا ترضيها الأمور هناك، وصحفي لديه من المعلومات ما لا يمكن أن يضعه في وسائل نشر تقليدية.. الاحتمالات لا يمكن حصرها.
كنت أبحث عن هذه اللحظة، وتوقفت عند نوت كتبتها في أكتوبر 2007 عن التعديلات الدستورية التي أجراها مبارك (وقتها كان فيسبوك يضع حدا أقصى لحروف الكتابة في الستيتس، ولذلك كنا نلجأ للنوتس إذا كان الكلام أكثر من جملة بسيطة، وكذلك لم يكن هناك علامة لايك)، كنوع من النستالجيا، وجدت أنها صالحة للنشر في هذه الأيام، ثم فوجئت بأني وضعت إعدادت الخصوصية وقتها، بحيث تصل إلى أشخاص معينين في قائمة أصدقائي التي كانت ضيقة في الأساس.
وقتها كانت القائمة تتضمن أصدقاء حقيقيين أعرفهم في الحياة.. كانت المسألة الأمنية حاضرة بشدة في تلك الأيام، لكن الخوف الآن أكثر.
بعد الثورة، تخليت عن شرط أن تكون العلاقات نابعة من الحياة غير الرقمية، في البداية كنت مهتما بالمشاهير، ثم لم يعد إنتاجهم الاجتماعي كافيا لتغطية اهتمامتي، بدأت في توسيع الدائرة للنشطاء والصحفيين والباحثين، ثم لكل من يمكنه أن يصيغ أفكاره في الكتابة.. لم أكن أحذف أو أتجنب أي أحد مهما بلغ اختلافنا، كنت أجد في أي شخص شيئا مثيرا للاهتمام يجعل نظرتي للعالم أوسع وأفضل.
وحتى لا أنسى، كنت أكتب تقريرا سنويا لنفسي، أرصد فيه التغيرات التي تحدث في قائمة الأصدقاء.
في نهاية 2012 قمت لأول مرة بحذف صديق من العالم الحقيقي، وفي منتصف 2013 تعرضت للحذف لأول مرة بسبب خلاف سياسي، ثم أصبح هذا شيئا عاديا لدى الجميع.
الخلاف السياسي أنشأ فواصل جديدة في المحيط الاجتماعي الواسع؛ ماذا سأستفيد من شخص يؤمن بأن البحرية المصرية أسرت قائد الأسطول السادس الأميركي؟! طيب، بماذا يمكن أن أفيد شخصا متعلما ينشر مقتطفات مزيفة وسيئة الصياغة من كتاب مذكرات هيلاري كلنتون؟! لا أتحدث هنا عن اختلافات أخلاقية يمكن أن تكون نسبية في النهاية، أصبح الاختلاف في إدراك المعطيات البسيطة، وبالتالي تكونت دوائر شبه مغلقة من أصحاب الوعي المشترك، وهي تزداد انغلاقا.
والآن.. تعود المسألة الأمنية، عندما تصل لي طلبات صداقة جديدة فإن ما أفكر به: هل هناك ما هو مشترك بيننا؟ لماذا يريد أن نصبح أصدقاءا؟ هل سيكون مزعجا؟ بماذا سأستفيد منه؟ لكن قبل كل هذا، أتعامل مع سؤالين: هل هو شخص حقيقي؟ هل هو أمنجي؟
لا أعتقد أن هناك دليل استخدام للفيسبوك بهدف كشف الأمنجية، هناك علامات يعرفها معظمنا، مثل عمق تاريخ الحساب ومدى التفاعل به، لأن الأمنجي يستخدم حسابات متعددة، ولا يمكن للأمنجي أن يرسم حياة كاملة بعائلات وأصدقاء وعلاقات متوترة وملتبسة، والأهم من كل هذا: الأمنجي ينشط في المحادثات السرية والجروبات المغلقة.
هل سمعت بقصص الأم التي أبلغت عن ابنها، والمراهق العبقري الذي يتجسس على زملائه الطلبة؟ معظمها غير حقيقي بالمناسبة، وهناك بالفعل مجانين يفعلون هذا بالمجان وبدون مجهود من أجهزة الأمن، لكن ماذا بعد؟ التفاعل الاجتماعي بأنواعه يعتمد على الثقة.. المواطن الشريف المتطوع بالتجسس سينتهي أمره تماما بعد خسارة الثقة، ويصبح أقصى نشاط له هو الإبلاغ عن الحوارات التي يسمعها في الميكروباص.. حتى إن الشرطة ملت من هذه النماذج.
منذ البداية أدركت البيروقراطية الأمنية خطورة وسائل التواصل الاجتماعي. خلال سنة الإخوان أصبح فيسبوك مصدرا لاصطناع الأخبار لكي تقوم وسائل الإعلام الضخمة باستخدامها في معركتها.
الآن وبعد استنفاذ الغرض، ينسحب كل طرف من الساحة الواسعة لكي يمارس التأثير في دوائره المغلقة.
لكن هذا تحديدا هو ما يسجل انتصار الأمنجية، أن يفقد الأفراد قدرتهم على الثقة في المجتمع من حولهم، أن يصبحوا أفرادا وحسب، بحيث تضيق قدرتهم على التواصل أكثر وأكثر.. أن تنغلق دوائر التأثير، وأن تصبح سرية، وهو شيء ليس منيعا أمام اختراق الأمنجية في النهاية.
لم أعد منفتحا كما كنت منذ 4 أعوام.. لم تعد ثقتي سهلة، وأصبحت أكثر تدقيقا وحسما، لكني أيضا اعرف أن هناك رابطا خفيا يجمع بيني مع آخرين لا أعرفهم، فلنسمها \”رابطة الساعين إلى التغيير\”.
لايزال الصراع مستمرا وإن أصبح مكتوما، هو صراع بين الشبكات المفتوحة والهرميات المغلقة، وإذا كان هناك ما يمكن عمله، فهو أن نعزز الثقة والانتشار عبر هذه الرابطة الخفية، وبهذا نسحب المبادرة مرة أخرى من الأمنجية.
ذلك النوت الذي كتبته منذ 8 سنوات وخشيت انتشاره في قائمة أصدقاء يقل عددهم عن المائة، أعدت نشره أمام الآلاف الآن.. كانت هناك لحظة اختيار، بين الاعتراف بالهزيمة، أو المخاطرة من أجل المزيد من التواصل والثقة. تبدو الأمور أخطر الآن.
الخبر هو أننا عدنا بالفعل للمربع رقم واحد.. مجتمع يحاول استعادة عافيته أمام سلطة تسعى لتعجيزه، لقد خضنا هذا سابقا بنجاح، وهو ما يجعله خبرا جيدا ومشجعا.