اعرف سيدة زاد معاشها بعد الثورة بأكثر من النصف، ولم تفوتها حلقة واحدة لتوفيق عكاشة، واعرف نصف دستة من الموظفين الحكوميين وأساتذة الجامعة الذين تحسنت ظروفهم الاجتماعية بسبب الثورة، بعضهم شارك في اعتصامات لزيادة الرواتب أو الحصول على حقوق بلعتها الدولة، ورغم هذا يحمل كل منهم كراهية عميقة لأي حراك بالمجتمع، وعلى رأسهم الثورة بالطبع.
في فهم هذه المفارقة سنسترجع غياب السياسة عن المجتمع لسنوات طويلة، تحكم الدولة في التوزيعات الاجتماعية بالتوظيف والعلاوات السنوية، وشبكات الزبونية السياسية التي تتعارض مع ارتقاء المطالب لمستوى السياسات العامة.. ثم إن الأزمة مستمرة، مرت الثورة كحدث عارض بها، وكذلك عودة الروح لجثة دولة يوليو، والآن تتفاقم الأزمة فيتخلى النظام عن أطفاله المدللين، بقانون جديد للخدمة المدنية مرفوض في مستويات بيروقراطية متعددة، أو بميزانية أجور لا تواكب حتى التضخم السنوي.
في العام الحالي تم ترحيل الأزمة للعاملين بالجهاز الإداري للدولة، وفي العام المقبل سيجيء الدور على ذوي المعاشات (بعد انتهاء فقرة الرقص المطلوبة أمام اللجان الانتخابية المنتظرة)، ثم سيكون هناك غيرهم.. إذا استمرت الأزمة في مسارها الحالي سنشاهد التحالف الاجتماعي الداعم للنظام وهو يتفكك قطعة قطعة، تاركا قلبه الصلب عاريا أمام المجتمع.. من جديد.
ربما كان المكون الناصري في الثورة أعلى صوتا لأن أهدافه كانت أوضح وأسهل: الحفاظ على القطاع العام (بهدف الحفاظ على مستويات التوظيف ليس أكثر)، رواتب أفضل للموظفين وذوي المعاشات لمواكبة التضخم، والحفاظ على منظومة الدعم.. باختصار؛ إنها مطالب بالعودة لجنة الستينات كما يتذكرها الكبار.
ثم كانت لحظة مواجهة الحقيقة لدى المنتمين للثورة، أن الموظفين وذوي المعاشات، وهم الأكثر مطالبة واستفادة، كانوا هم الأكثر تذمرا من الثورة. يبدو الأمر كخيانة، لكنه في الحقيقة كان النتيجة الطبيعية الوحيدة لتلك المطالب الناصرية، التي بشكل غير مباشر، تعيد المسؤولية الأبوية للدولة، وما دمنا سنضغط على الدولة لتمنح، فإنها ستكون الأولى بالطاعة.. الأمور تكون أوضح كثيرا عند مستوى لقمة العيش.
الآن، المنتمون للتيار الثوري (أو فلنسمه تيار التغيير نحو الديموقراطية التشاركية)، يجدون أنفسهم أمام معضلة في الشق الثالث من مطالب الثورة \”عيش-حرية-عدالة اجتماعية\”. البعض يجد أن تخلي النظام عن الموظفين هو جزاء عادل لهم، أو نتذكر أنهم الأكثر حصدا لثمار الثورة بخلاف العاملين لدى القطاع الخاص والمهمشين عموما، هؤلاء الذي عملوا على صياغة سياسات عامة يسترجعون مرارة استعصاء الجهاز الإداري للدولة على التطوير، بملايين من المشتغلين ذوي الإنتاجية المتدنية، ومقاومتهم لأي تطوير.. ثم تكسر مقاومتك صور موظفي الدولة المتظاهرين ضد قانون الخدمة المدنية، وهم يحملون صور السيسي متضرعين إليه بإلغائه، وكأنه لا فكاك من فخ الناصرية.
الاستسلام للخطاب الناصري كان خطأنا المبكر.. حسنا، لم يكن لدى أحدنا وقتها خطابا غيره، لكن الخطأ الأهم الآن هو الاستسلام لخطاب التقييم الأخلاقي وانتظار العدالة التلقائية بمقاعد المتفرجين. لا يمكن اعتبار أوضاع المشتغلين لدى الدولة عادلة بأي حال، سواء من منظور تدني الإنتاجية وارتفاع التكلفة، أو من ناحية الفساد الإداري وانعدام التدريب والتطوير. القانون الجديد يبدو مصمما لإجبار الموظفين على تطوير أدائهم وتصفية غير القادرين على التطور، لكنه في أوجه أخرى يكرس للمزيد من السلطوية ولانعدام العدالة.
إنها فرصة رائعة للمطالبين بالتغيير، لكن علينا أولا أن نتخلى عن اعتبار الأخلاق هي المعيار والهدف، مع الاعتماد على أجندة سياسية في الأساس. لا يزال الهدف العام هو دفع دولة يوليو خطوة وأخرى للوراء، تمهيدا لتفريغ مساحة تنفس للمجتمع، وأن نكون على قيد الحياة وخارج السجون وغير يائسين عندما تأتي تلك المساحة، ولقد قامت الأزمة بدورها وبدأت الكتلة الإسفنجية في مراجعة وضعها من النظام.
نعم.. هم يرفعون لافتات استجداء السيسي، لكن دعونا لا نتناسى مقدار الخطورة في تحركهم بعد أن رسّخ النظام مبدأ رصاصة في رأس أي متظاهر (مع تولي القضاء تنظيف الفوضى بعدها عبر دفن الأدلة وسجن الناجين)، ومن المنطقي أن يحتفظ أغلبهم بفرصة للتراجع وأن يستخدم لافتات السيسي كمظلة من اتهامه بانتمائه للإخوان. في النهاية سيكون أمام النظام طريقين، إما الاستجابة لمطالب جزئية في تعديل القانون، ومن ثم الغرق لفترة أطول في الفوضى الإدارية، مع المخاطرة بفتح شهية المعترضين للمزيد، أو خوض الصراع لنهايته بتجاهلهم، لتنخفض لافتات السيسي ويبحث المتظاهرون عن مادة التحام أقوى من الخوف والمطالب ذات السقف المنخفض.
مع الوقت سيبدأ الجميع في البحث عن بديل لهذا العك الحالي، لقد انتهت أيام التضامن المجاني، ستكون هناك فرصة لالتقاء مطالب الثورة الثلاث في كتلة واحدة، لكن لن يحدث هذا بدون تنازلات وتضامن متبادل من كل الأطراف.
وكالعادة، لا شيء مضمون في السياسة، قد يكون اليأس أسرع لهم من تطوير سياسات عامة تحمل مطالبهم، وقد يقتنع الموظفون ببضعة جنيهات، أو يصل النظام لحل أكثر رشادة من مغامرة التأرجح مع كتلة لم تنفض عنها الود تجاهه بالكامل، لا تزال الاحتمالات مفتوحة للجميع، نحن لسنا في نهاية التاريخ، لدينا فرصة جديدة، ولدى النظام تحدي جديد وأزمة مستمرة، وفي الطريق سنحتاج سياسيين كما نحتاج حالمين وغاضبين.
بتعبير أوضح، لا يحتاج التغيير الحقيقي لفرض التطهر على العائدين من عربة النظام، بل يحتاج لاتفاق واسع حوله، أكثر حتى مما ظنناه متوافرا خلال الثورة، وسيكون علينا حل اختبارات في كيمياء التحالف بين فئات اجتماعية متنوعة ومختلفة، الموظفون هم سؤال استهلالي سهل، سيكون علينا البحث في مفاضلات معقدة، مع برجوازيون محافظون، أو حتى أجنحة في قلب النظام، لأنه لا تغيير بدون أن يكون لديك ممولين وبيراقراطيين متحمسين. المعيار هو أن تكون لديك أفكار تحسن حياة الناس، وأن تكون قادرا على تطبيقها.