استخدم مترو الأنفاق بانتظام منذ أكثر من ربع قرن، ومنذ 3 أسابيع هناك على جهاز الكمبيوتر ملف كتبت فيه مشاهداتي عن الإذلال اليومي الذي عاناه مستخدمو محطة رمسيس* طوال ما يقرب من عامين، بمناسبة إعادة فتح محطة السادات. لسبب ما لم أستطع إكمال المقال، حاجز كتابة ربما، ثم وجدت نقطته المناسبة من محطة أخرى تقع بالإسكندرية؛ سان ستيفانو، حيث تبدأ أطول مائدة إفطار في العالم.
ترام الزمن الجميل
يُقال إن \”شاب زي الورد\” قرروا تسجيل اسم مدينتهم بحروف من ذهب في سجل أكبر موسوعة أرقام قياسية في العالم، ليكسروا الرقم الإيطالي السابق في فئة أطول مائدة طعام جماعي في العالم، وهو مشروع تحمس له المحافظ الوسيم الذي لتوه منح مدينته عربات ترام جديدة من الزمن الجميل.
عربات الترام هي مقهى راق متحرك، حيث يمكنك الاستماع للموسيقى الكلاسيكية وارتشاف القهوة المحوّجة، بينما تتحدث عن نظريات الجمال، ليقطع الترام رحلته وسط زحام المدينة، متجاهلا المتسولين، المباني العشوائية، وأكوام القمامة التي يعاني منها معظم السكان.. إنه مشهد يمكنك تجاهل وجوده بإسدال ستائر عربة الترام والاستمتاع بالموسيقى.
لأن التكييف أفضل.. سننتظر
ننتظر بشغف تجربة مترو الأنفاق الجديد؛ يقولون إن المكيفات به مثل الثلاجة.. اتذكر مكيفات الهواء المركزية في المحطات عند بداية إنشاء المترو.. اتذكر أيضا ارتباكنا عند التعامل مع ماكينات التذاكر الذكية، وتحمس موظفي الأمن لفرض الغرامات إذا اتضح أن الراكب تجاوز عدد المحطات التي تسمح بها التذكرة، ثم اختفى هؤلاء وحل محلهم أفراد أمن من شركة خاصة مكانهم، وحتى لا تتورط الإدارة في تعيينهم، ثم فقدت الماكينات ذكاءها، ثم تعطلت، ثم حل أفراد الأمن مكانها في جمع التذاكر.
خلال الأيام المقبلة، هناك مترو جديد مكيف في الطريق، لقد صارت فرصتنا أفضل في الانتظار، وهو ما دفع وزير النقل للاعتراف بأن مستخدمي المترو طلبوا منه رفع سعر التذكرة.
قبلها بأسبوع تعطل أحد قطارات الخط الثاني داخل النفق، وتعرض الركاب للاختناق، فغامروا بمغادرته وكادوا يفتكون بسائق القطار، وخلال رحلتهم في النفق المظلم، ربما كان بعضهم متفائلا لدرجة التفكير في أن مستوى الخدمة يستحق مضاعفة سعر التذكرة.
جائزة أطول بوفيه
لدينا زوايا كثيرة لرؤية ما حدث على أطول مائدة إفطار في العالم: هناك من تحدث عن رجال أعمال قاموا بإفساد الحدث، بالإضافة طبعا للفلول والإخوان، وهناك من يؤكد أن المائدة أقيمت على أتم وجه من سان ستيفانو وحتى كوبري ستانلي، وأن سوء التنظيم أفسد آخر 150 متر فقط.
الإفطار كان بدعوات وبعض المدعوين دفعوا 50 جنيها كتبرع، بل تمت دعوة كل مواطني الأسكندرية وبعضهم فقراء ظنوا خيرا في مائدة المحافظة.. روايات كثيرة، لكن عندما تأخر الطعام لمدة نصف ساعة، تجتمع الروايات في حدث مشترك: الشك يتسرب للمنتظرين، لا فرق بين من دفع مقابل طعامه والضيف المجاني، تذهب أوهام الرقم القياسي وريادة العالم، تسيطر عليهم فكرة أنهم تعرضوا للخداع، ثم فجأة يرفضون الانتظار، لتبدأ مطاردة عربات الطعام وتتطاير الكراسي فوق المائدة.
إنه مشهد معتاد في الأعراس، عندما يفقد المدعوون صبرهم أمام البوفيه المفتوح، كما قالت مثقفة سكندرية ترى أنه لا داعي لإفساد فرحة الرقم القياسي.
إعادة افتتاح عكا
قبل افتتاح محطة السادات، أكد وزير النقل أن الأمر متوقف على إرادة الجهات الأمنية، \”نحن لن نفتح عكا\”، هكذا قال الوزير مدللا على سهولة الأمر.
يوم الافتتاح كنت انظر في وجوه الركاب باحثا عن سعادتهم في اجتياز فترة العقاب الجماعي، أصبحت هذه المهمة صعبة مؤخرا بعد أن ساد الصمت في عربات المترو، بخلاف السنوات الماضية عندما كان يشتعل بالمناقشات والاختلافات.. الآن عاد الموظفون لجرائدهم وصمتهم، النساء بين الهلع والشرود، العجائز في بؤسهم والشباب وراء سماعات الهواتف.
قبل محطة رمسيس يأتينا صوت موظفة الإذاعة الداخلية ليبث البشرى، أنه ليس على الجميع أن استخدام المحطة لتبديل الخط، وينتبه بعض الركاب إلى أنه ليس عليهم خوض تجربة الزحام، التكدس، التحرش والروائح الجماهيرية، ينظرون لبعضهم بود وسعادة، لقد انتهت الأيام الصعبة، يلتفتون حولهم بارتباك وعدم اعتياد، ثم يغادر بعضهم لأن قدره يظل هكذا، بينما يستمر الباقون لزيارة المحطة الغالية.
لكن ليس هذا هو ما حدث.. الحقيقة أنه لم يحدث شيء، لم يبد على الركاب أي تأثر بالرسالة التي سمعوها.. استمرت الكتلة البشرية المصمتة في انتظار المغادرة بمحطة رمسيس.. لم يتراجع أحدهم.. انفتحت الأبواب على كتلة مصمتة أخرى على الرصيف، ثم تتخبط الكتلتان وتختلطان في المشهد الملحمي المعتاد، وبنهاية النهار، أفاق عشرات منهم للحدث الجديد، سجلت وسائل الإعلام عجائز يرقصون شاكرين في الجزء العلوي من المحطة، بينما سجلت فيديوهات أخرى مظاهرة عفوية أمام أعين رجال الشرطة، حيث تم سب الرئيس السيسي، وبألفاظ يُعاقب عليها القانون، وبالتأكيد لن تُسعد الرئيس المؤدب مُغلِق المحطات.
*لماذا استمر في تسميتها محطة رمسيس وليس الشهداء؟ اعتقد أنه كان من الأفضل أن تستمر باسمها السابق.. مبارك؛ اللفظ نفسه يحتوي مفارقة موحية عن هذا العهد السيء الذي أفضى لما هو أسوأ، والرجل الذي بنى المترو ليستخدمه أهل المدينة في الإطاحة به.. قبل الثورة كان لفظ الشهداء نادرا ومبهما في لغتنا اليومية، لكنه الآن مجرد محطة عقابية في بداية نفق طويل.