محمد حسن يكتب: ما قاله "مالك" في الجُزر

مربك جدا أن تكتب عن صديق لك قيد الإعتقال، ربما يكون سبب تلك الربكة هو إحساسك الدائم بأنه عليك فعل شئ ما كي تحرره، فلا تجد للكلام جدوى، وأنت عاجز عن إتيان الفعل.
سُجن مالك عدلي على خلفية الأحداث التي أعقبت اتفاقية إعادة ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، التي ترتب عليها تنازل مصر للمملكة عن جزيرتي تيران وصنافير الواقعتين في محافظة جنوب سيناء.

هُيء ليًّ الآن وأنا أكتب سبب سجن مالك في السطرين الأخيرين، أنني أُخُبر به أحد شهدائنا الذين صعدوا من فوق مذبح سيناء بين عام النكسة وعام الانتصار، حسناً فلننطلق للكتابة من هنا.

استطيع أن أرى وجهه وقد علاه الفزع، جبينه الذي تكسوه الرمال المخضبة بالدماء يقتضب، بزته العسكرية المهلهلة لا تخفي الثقوب التي تملأ جسده، دماؤه فوق فوهات تلك الثقوب مازالت تنز، وكأن رصاصات العدو قد نفذت إلى جسده منذ ساعات قليلة.. استطيع أن أسمعه يشهق من هول ما سمع، ويتردد صدى صوته في الهجير الذي تحتضن رماله جسده.

يسألني:
ماذا قلت؟
أجيب:
ما سمعت.. تنازلنا عن الجزيرتين مقابل بعض المساعدات الاقتصادية، لكنهم يزعمون أن للسعودية حقا تاريخياً فيها، ولابد أن تعود إليهم.

وهل يكفي أن تزعم بلد أخرى أن لها حقا في أرضنا كي نعطيها لها؟!
لا يا جدي، ليست السعودية من تزعم أن الأرض أرضها، لكنها حكومتنا البليدة صاحبة هذا الزعم، وتدافع عن التفريط في أرضنا بضراوة كتلك التي دافعت أنت بها عن حقنا فيها، حتى إن أحد محاكمنا العليا، عندما قضت ببطلان هذه الاتفاقية المشينة، طعنت الحكومة على هذا الحكم كما لو كانت حكومة سعودية لا مصرية!
– ومن مالك؟
محامي شاب سخر نفسه لخدمة المظلومين.
– وماذا فعل كي يسجن؟
لم يفعل، بل قال.
– وماذا قال؟
قال إن الجُزر مصرية، قال إن مصر مبتدأ العالم وخبره، قال إننا أقدم دولة في التاريخ، وإن هذا البحر الذي يحدُنا من الشرق لم يُعرف قديما على غير كونه بحيرة مصرية، وكل ما عليه من جُزر جزء من إقليمنا التليد، وأنه ليس من اللائق، بل هو من الإهانة بمكان أن تحدثنا أي دولة عن حقها التاريخي في أرضنا، فما بالك إذا كان عمر تلك الدولة لا يتجاوز عمر أحد أجدادنا الذين لم نزل نجلس إليهم كي يقصوا علينا حكايات عاينوها قبل تأسيسها.
قال لم أنم منذ سمعت بهذا الخبر الأسود، دموعي تلازمني ولا استطيع أن أُطل في وجه ابنتي، كيف لمصري أن يدعي بأن أرضا مات من أجلها أهله ليست مصرية!
قال معي كل الوثائق التي تثبت مصريتها، معي المعاهدات والخرائط والمواثيق، معي الدماء، معي التاريخ والجغرافيا، قال إن البيادات التي ذابت في الطريق من سيناء للقاهرة تثبت أن الجزر مصرية، وأن من ينكر كل هذه المستندات والوثائق الصادرة من مؤسسات الدولة المصرية، فهو خائن، قال إن تلك الجزر روتها دماء أجدادنا، وأن من يفرط فيها يستحق اللعنة لا التمجيد، قال من أراد أرضي فليعبر على جسدي.
وهاهم يعبرون على جسده، فقد أودعوه أحد سجونهم القاسية منعزلاً، فلا يرى الشمس ولا يرى رفقاء السجن الذين شاركوه القضية، لا يتريض، يفترش الأرض لينام، لا يمر إليه كل ما تحمله إليه زوجته في أوقات الزيارة، الطقس الحار الخانق في محبسه عديم التهوية يصيبه بنوبات ارتفاع ضغط الدم حتى إنه زار مستشفى السجن عدة مرات.
والآن يا جدي دعني أسألك وأنت الشهيد القادم من الغيب، من يجب أن يُسجن؟ من دافع عن حقه في الأرض، أم من راح يبرهن أننا دولة مغتصبة احتلت تلك الجزر من جارتها؟
أجبني يا جدي، لماذا يسجن مالك؟ ولماذا قُتلت أنت؟
ورجاءاً لقني جواباً لبهية إذا كررت سؤالها: \”فين مالك؟\”
مد الشهيد لي يده كي أُنهضه، فمددت يدي وكنت جاثياً على ركبتي، فهمّ كالمقبل على الكلام؟ وعندما استقام ظهره كانت عيني مثبتة على كف يده الذي أقبض عليه وكأنني أتحقق مما ألمس، فإذا بيده تسقط من يدي ذرات رمال متناثرة.. نظرت إلى وجهه وقد استحال هو الآخر رمالا تذروها نسمة هواء.

#مالك_عدلي_حر

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top