لاشك أنه لزاما علينا قبل الحديث عن الذاهبين إلى اليمن، التطرق إلى تجربة العائدين من هناك، فلا يمكننا التعاطي مع القضية اليمنية التي يبدو أنها باتت تشكل صخرة سيزيف للجيش المصري دون أن نتذكر تجربة عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي هناك، وإلا أصبح الماضي عديم الفائدة أو مجرد مصدرا للفخر الكاذب يمتهنه محتروفو أكل الأكتاف من الطبقة الحاكمة والمدعين من بينهم من المتملقين والمنافقين كما نرى اليوم من ابتذال التاريخ المصري الطويل لخدمة سلطة الفرد، الآفة التي لازمت بلادنا منذ قرون.
يخطئ السيسي كما أخطأ عبد الناصر عندما قرر الذهاب إلى اليمن، إلا أن الدوافع النظرية التي حملت ناصر على اتخاذ هذا القرار كانت على قدر لا بأس به من القوة والوجاهة، تمثلت تلك الدوافع في رغبة الشعب اليمني في الثورة على الملكية وتأسيس نظام حكم جمهوري وهي غاية نبيلة كان واجباً على كل حاكم عربي تأيدها ودعمها سياسياً إذا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.. ردع نظام آل سعود الداعم الأكبر للمملكة المتوكلية وممول الثورة المضادة على الجمهوريين، علاوة على الدور الذي لعبه آل سعود في فك الوحدة بين مصر وسوريا ورغبة عبد الناصر في تعويض انفصال سوريا بضم اليمن إلى الجمهورية العربية المتحدة.. رغبته في طرد الاستعمار البريطاني من جنوب اليمن مستفيداً من نجاح دعمه لثورة الجزائر على الاستعمار الفرنسي.. السيطرة الحقيقية على مضيق باب المندب ومنع إمدادات النفط عن إسرائيل.
إلا أن كل هذه الدوافع وعلى الرغم من وجاهتها الشكلية لا تمثل سببا مقنعاً للتدخل العسكري، والحق اقول لكم إنه لا يوجد سبب مقنع أياً كان لتنفيذ عمليات عسكرية في بلد آخر لترجيح كفة فصيل سياسي على غيره، وإذا كان من تلك العمليات بد، فكان يجب أن تقتصر على جنوب اليمن الواقع تحت الاستعمار البريطاني لمساعدته على الاستقلال، أما دعم الجمهوريين ضد الملكيين، فكان من الممكن أن يكون دعماً سياسياً لا عسكرياً، كأن تعترف مصر بحكومة الثورة وتكثف جهودها الدولية لكسب اعتراف حلفائها بتلك الحكومة ويقتصر الدعم العسكري في باقي اليمن على إمداد الثوار بالسلاح في مواجهة إمداد آل سعود لأنصار حكم الإمام محمد البدر بالسلاح في شمال اليمن.
ذهب ناصر إلى اليمن، وما إن وصلت قواته حتى تحالفت السعودية مع بريطانيا وانضمت إليها إيران التي زودت قوات الإمام بالمال، فقد كانت طهران على وفاق مع الرياض آنذاك، فالخلاف الطائفي المفتعل الذي زرعه النظام السعودي مع نظام الملالي لم يكن له وجود قبل الثورة الإيرانية، فالحقيقة أن آل سعود لم يختلقوا هذا النزاع الشيعي السني إلا لمرضاة وجه أمريكا الرافضة للثورة الإيرانية وخوفهم من انتقال عدوى الثورة إليهم، فتهتز عروشهم ويتزعزع ملكهم، فلم يكن الشيعة قبل الثورة الإيرانية روافض ولا مجوس ولا ملاعين ولا أذناب ولا أي من هذا الروث الذي يصبه النظام السعودي في آذان الشعوب السُنية كل يوم، كما ساند هذا الحلف شركات البترول الأمريكية التي كانت تخشى تمدد نفوذ ناصر الإقليمي الذي كان يعني تهديدا لسطوة الرأسمالية على الجزيرة العربية.
قام هذا التحالف بتجنيد المرتزقة من كل مكان في العالم للقتال ضد القوات المصرية، ساعدت إسرائيل هذا الحلف عن طريق تنفيذ طيرانها العديد من الطلعات الجوية على الحدود بين اليمن والسعودية، القت خلالها الذخائر والمؤن والمساعدات الطبية على القوات الموالية للإمام البدر وباكستان رأت في الحرب فرصة لكسب المال فقامت ببيع السلاح للملكيين.
ذهب ناصر إلى اليمن ولم تغنه قوة دوافعه ووجاهتها من وعورة الميدان اليمني وغلظة جباله.. لم تشفع له عند شيوخ القبائل والعشائر الذين عاهدوا المصريين على مناصرتهم، وعندما اندلعت المعارك نقضوا عهودهم وكشوفوا ظهر الجيش المصري لأنصار البدر.
بحلول عام 1967 بلغ عدد الجنود المصريين في اليمن 55000 جندي أدى غيابهم إلى خلق فجوة في خطوط الدفاع المرابطة على الحدود المصرية، فكانت نكسة يونيو، كما أدى السقوط في هذا المستنقع إلى فقد ما يقرب من 15000 جندي مما دفع العديد من المؤرخين إلى تسمية حرب اليمن فيتنام مصر.. تلك كانت مأساة عبد الناصر.
أما السيسي يا سادة يا كرام، فيريد أن يكرر نفس الخطأ اليوم غير مدفوع بأي هدف ذي شأن، ولا مجال في تلك الكرة الخاسرة لتحليل الواقع اليمني على الأرض ومن ثم التنبؤ بالنتائج الميدانية لهذه الحرب، فكل التجارب السابقة والمعطيات الحالية تشير إلى أن داخل اليمن مفقود، فلنتحدث إذاً عن دافع هذا المترنح للزج بجنودنا في أتون الهلاك.
يذهب السيسي إلى اليمن لا ليناصر ثورة، وإنما ليبقي اليمن تحت سيطرة آل سعود، لا ليبسط نفوذ مصر الإقليمي لمواجهة الكيان الصهيوني – العدو الأول للشعوب العربية – وإنما لمعاونة حليف إسرائيل الأول في حربه الطائفية هناك وتثبيت دعائم ملكه القبيح في الجزيرة.. يذهب إلى هناك منصاعاً لأوامر تجار النفط مدعوماً بتأييد الولايات المتحدة التي طالما ادعى إعلاميوه، الذين يتلقون توجيهاتهم من مدير مكتبه مباشرة، أنه يحارب مخططاتها لإثارة الفتن في المنطقة وإغراقها فى الحروب الأهلية!
يذهب السيسي إلى اليمن دون أن يسأل نفسه: ماذا لو أن الدور الذي يلعبه آل سعود لصالح واشنطن في المنطقة قد انتهى وتأييدها لتلك الحرب ليس إلا فخاً لبداية القضاء عليهم وإعادة تشكيل خارطة التوازنات في المنطقة، خصوصا وأن المفاوضات بشأن الملف النووي الإيراني أثناء كتابة هذه السطور تشهد تقدماً ملحوظا، قد يصل إلى رفع الحظر على صادرات النفط الإيرانية.
لم يسأل السيسي نفسه أيهما أخطر.. المد الشيعي في الخليج أم المد الوهابي في مصر، الذي أنفق عليه النظام السعودي المليارت منذ عهد السادات وحتى اللحظة التي يناشدهم هو فيها تكوين قوة عربية مشتركة ليقصفوا بها الشعوب العربية المستضعفة.. لا يسأل الرئيس الضرورة نفسه: ما هو سر ميوعة موقف النظام السعودي من تنظيمات كداعش وجبهة النصرة وكل الجماعات الإرهابية التي يدعمونها بالمال والسلاح في الخفاء؟!
يذهب إلى اليمن ليؤجج الصراع الطائفي هناك، وهو الذي أوسعنا نصحاً لنبذ الطائفية وتنحية الخلافات المذهبية وحتمية تجديد الخطاب الديني في الوقت الذي يعاون فيه المملكة السعودية التي أعادت بريطانيا إنشاؤها على أساس طائفي!
وعلى الرغم من محاولة آلة السيسي الإعلامية الترويج إلى أن دخول هذه الحرب بدافع السيطرة على مضيق باب المندب لأهميته الاستراتيجية لمصر، إلا أن هذه الأكذوبة لا تنطلي إلا على أتباعه الذين كلما سمعوا زمره اهتزت خصورهم، فمن الذي يريد انتزاع السيطرة على باب المندب من القواعد الأمريكية والإسرائيلية والفرنسية والتركية المرابطة لتأمين التجارة الدولية هناك؟! هل يريد انتزاعه لإجبار القطع البحرية الإيرانية على الإنسحاب من المضيق كما ادعت كذباً الصحفية الكويتية التي أصبحت تنقل أخبار تحركات الجيش المصري أكثر من المتحدث العسكري؟!
ما كل هذا العبث أيها المأفونون، لما لم نر اهتمامكم البالغ هذا بباب المندب قبل بداية هذه الحرب؟
لماذا لم تتحدثوا عنه عندما اختطف القراصنة الصيادين المصريين هناك ولم يحرك الأسطول المصري قاربا مطاطيا واحدا لإنقاذهم؟
فقط المال هو ماينشده زعيمكم الهش من تكرار هذه المغامرة المدمرة.. مال الخليج ونفط الخليج وذهب الخليج المتلألئ في عيونكم معدومة البصيرة.
وبمقارنة هذا الدافع الوضيع بدوافع حرب الستينيات ومقارنة التحالفات التي عقدت حينها بالتحالفات التي تعقد الآن ينكشف لنا حجم المهانة التي صرنا إليها، ففي الستينيات وبعدما واجهت مصر منفردة التحالف السابق ذكره أصبحت الآن عضواً فيه وليتها عضواً فاعلاً، بل تابعا تحركه أهواء ملوك الخليج وتحل محلها إيران لتواجه التحالف الحالي منفردة.
أموال آل السعود التي اشتروا بها المرتزقة وتجار الحروب لمحاربة مصر في اليمن أصبحت كافية لشراء جيشها الآن.
من المضحك في هذه المهزلة أن نجد تيار الإسلام السياسي في مصر بمختلف أطيافه المؤيد للسيسي والمعارض له مصطفاً خلفه في عدوانه على اليمن، لأنه يحارب الشيعة الأخطر على الأمة من اليهود – كما يزعم هؤلاء الساقطون من عجلة التاريخ – على مشارف دولة الخلافة الأولى، ومما يثير الضحك أكثر وأكثر أن تفاجئنا جوقة السيسي بترديد خطاب الإخوان والسلفيين عن خطورة المد الشيعي وحتمية التصدي له!
تلك هي مهزلة السيسي، التي أسأل الله أن يرده عنها ولا يتمها عليه حتى لا تثكل الأمهات وترمل النساء وتيتم الأطفال بسبب حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل.