يقال –والله أعلم- أن الوظيفة الرئيسية للدكتور \”زكريا عزمي\”، رئيس ديوان رئيس الجمهورية في عهد الرئيس الأسبق \”حسني مبارك\”، كانت عبارة عن قراءة التقارير الواردة للرئاسة من الأجهزة المختلفة، وتلخيصها شفاهة للرئيس. لأن الرئيس –كما يشاع- كان يكره القراءة، ويكره التفكير بالتبعية. ورغم أنني لا استطيع التأكد من صحة ذلك أوعدمه، إلا أن تجليه واضح في حالة الجمود الثمانيناتي التي عشنا فيها طوال ثلاثين عاما، والتي لا تنتج إلا عن حالة من الجمود الفكري لدى من يديرون البلاد.
أضف أيضا إلى هذا سيطرة الأفكار الوهابية والإخوانية على الفكر الديني بشكل عام في مصر، ومن ثم الوعي الجمعي لدى المجتمع، والتي تعتبر المفكر كافراً، والتفكير خروج عن الملة، اللهم إلا التفكر في خلق الله (اللي هو ماحدش بيوضح إيه هو يعني بالظبط ولّا إزاي!). ولا يختلف الأمر كذلك كثيرا لدى الكنيسة.
ولأن الشعب عادة ما يميل إلى التماهي مع حاكمه، ولأن الدين مكون رئيسي من مكونات ثقافته، أدى ذلك –مع الجهل والأمية وضعف التعليم- إلى أن صرنا مجتمعا يكره التفكير.. ضد التفكير.. ينظر إليه باعتباره حراما أو عيبا، أو وسوسة شيطان تؤدي بصاحبها إلى الإلحاد أو الجنون.
لكن في السنوات الأخيرة مع ظهور كل من اختراعي الإنترت، والمحمول، وكذلك مع انتشار المدارس الأجنبية ذات التعليم الجيد (ولو نسبيا) بين الطبقتين العليا والمتوسطة.. ظهر جيل منفتح إلى حد كبير على العالم، تلقى قدرا جيدا من التعليم، يستطيع بسهوله التأكد من حقيقة أي أمر يعترضه. فبدأت هذه الأجيال مع الوقت تكتشف حجم الأكذوبة التي عشنا فيها سنوات طويلة، ومن هنا حدث الصدام، ومن هنا أيضا كانت الثورة. فبدا لي الصراع منذ البداية وحتى الآن عبارة عن صراع بين من يفكرون ومن يرفضون التفكير من أساسه.
وليس بالضرورة بالطبع أن من يفكرون، يفكرون بطريقة سليمة، أو يفكرون بطريقة إيجابية. بل من الممكن – ومن الممكن جدا- أن تكون أفكارهم خاطئة أو سلبية.
لكن هل هذا معناه قمعهم ومنعهم من التفكير، والدفع باتجاه إرجاع الأمور إلى حالة الجمود والسكون الفكري السابقة؟! ففضلا عن أنه من المستحيل منع من يفكرون من التفكير، فالدفع بهذا الاتجاه يعتبر بمثابة سير عكس اتجاه الزمن.. لا يمكن أن يؤدي في النهاية بأصحابه سوى إلى الانقراض.
وهذا بالضبط هو ما يحدث حاليا.. محاولات مستميتة محمومة في جميع مستويات الدولة والمجتمع للعودة إلى نظام اللافكر، أو نظام منع التفكير! العودة إلى تعليمات سيادتك، وتمام يا فندم، وحاضر يا بابا، والعيال لازم تسمع الكلام!
والمثير للدهشة ومشاعر القهر، أنك تجدهم يتحدثون دائما عن التقدم المنتظر، والطفرة التي نحن بصددها، غير منتبهين على الإطلاق إلى أن الزمن تغير، وأن أي تقدم الآن يحتاج بالضرورة أولا إلى التفكير، وليس إلى قمعه ومنعه.. لكن لأ.. إزاي؟ هي سابت؟! إحنا نفكرلك.. حتى لو وديناك في داهية عادي.
ولذلك فأنا اعتقد أن فرصتنا الحقيقة في التقدم لن تكون إلا بفناء الأجيال القديمة التي تعودت إملاءات السلطة، لكي تحل محلها بالتدريج أجيال تحررت من فكرة السلطة نفسها.. السلطة الحكومية والدينية والأبوية.. أجيال تستطيع التفكير بحرية دون قيود، لكي تجد حلولا لتلك العقد التي تركها لهم أسلافهم، كلاكيعا من فوق كلاكيع.. وهذا سوف يحدث بالتأكيد.. لأنها سنة الحياة.