محمد حسني أبوالعز يكتب: وداعا أيتها السماء.. "روح حائرة.. ورب لا يجيب"

 

\”شاكر عبد المتعال\”.. ذلك هو اسم بطل رواية \”وداعاً أيتها السماء\” -التي صدرت طبعتها الثالثة مؤخراً عن دار نشر \”ميريت\”-.. المؤلف هو \”حامد عبد الصمد\”. ذلك المؤلف الذي أثار الجدل مبكرا بأفكاره المناهضة للأديان، وتحديدا الدين الإسلامي. وهو المشهور في بلد إقامته \”ألمانيا\” أكثر بكثير من شهرته في موطنه الأصلي \”مصر\”.

يبدو \”حامد عبد الصمد\” في \”وداعا أيتها السماء\” وكأنه يحكي قصة حياته هو، تبدو مشاعره وانفعالاته واضطراباته وآلامه صادقة للغاية. الرواية ممتعة ومفجعة في ذات الوقت، مليئة بالأحداث الصادمة والصراعات النفسية الرهيبة وأسئلة الهوية المحيرة، والتي تتمحور جميعا وتدور حول نقطة واحدة.. الله!

ظل بطل الرواية \”شاكر\” طوال حياته في حالة ذكر لله، لكنه ليس ذكرا على المسبحة أوعقل أصابع اليد، بل هو ذكر المتسائل الحائر المعذب. فشاكر ذلك الطفل القروي النابه، ابن إمام مسجد القرية، الذي يعده أبوه لخلافته في الإمامة، ومن ثم خلافة الله، يبدو أن الله قد خلقه بعقلية ناقدة غير مُسَلِمَة بما هو كائن، أو أن الأحداث الشنيعة التي قد حدثت له في حياته والتي بدأت مبكراً باغتصابه وهو في سن الرابعة، دفعته دفعا للتفكير في ذلك الإله الذي تركه ليُفعَل به كل هذا.

كان هذا هو أول صدام مباشر له مع الله! أو بمعنى أصح.. مع \”ظل الله في الأرض\”:

((في الصباح التالي كنت أجلس أمام المنزل بعد عودتي مع أبي من صلاة الفجر انتظر شروق الشمس. فلمّا رأيت قرصها الأحمر المستدير خلف النخيل أشرت بأصبعي إليها وقلت \”هذا ربي هذا أكبر\” كنت أعرف القصة من أولها لآخرها فبدأت بالشمس مباشرة من باب الاختصار، لأنني قد عرفت أنه لا فائدة من مناجاة النجوم والقمر كما تعلمت من سورة الأنعام.

وكان أبي على مقربة منّي وسمع ما قلت فجاء إليّ وسألني مبتسماً ماذا أفعل؟ فقلت له:

-\”أنا بادور على ربنا\”

-\”ربنا مش ضايع يابني عشان تدور عليه\” قال وابتسامته غير المألوفة لا تزال على شفتيه.

-\”طب وهو كان ضايع لمّا سيدنا إبراهيم كان بيدور عليه؟\” سألته بمكر.

-\”لأ.. إن الله موجود قبل الموجودات. هو الأول والآخر والظاهر والباطن\” قال أبي بصبر واستمر في خطبته المصغّرة \”وبعدين سيدنا إبراهيم وجد ربنا بفطرة الأنبياء وحكمة الحكماء\”

-\”بس سيدنا إبراهيم رفض دين قومه لأنه كان دين ضلال. أما ديننا فهو دين الحق\” رد أبي ببلاغته التي لم تجديني.

-\”بس قوم إبراهيم كانوا مفكرين إن دينهم هو دين الحق. و سيدنا إبراهيم كسّر أصنامهم. مش ممكن يكون ديننا النهارده بقى دين الضلال وإن إحنا محتاجين دين جديد؟\” سألت أبي وأنا أشعر أني تخطيت حدودي.

فجأة تحولت ابتسامة المعرفة المرتسمة على وجه أبي إلى ابتسامة حرج ثم إلى تجهم صامت ثم قال بعدها:

-\”و إنت بقى عايز تدور على ربنا ليه؟\”

-\”عايز أعرف هو مين. وعايز مننا إيه؟\”

-\”اسمع يابني.. مفيش حاجة اسمها تدور على ربنا. الموضوع مش سبهللة! البحث عن الإدراك إدراك والبحث في ذات الله إشراك! يدرك الأشياء ولا تدركه الأشياء.\”

-\”ربنا كان فين قبل ما يخلقنا، وكان بيعمل إيه؟ وخلقنا ليه؟\” سألته من جديد.

-\”كان عرشه على الماء وكان كنزاً مخفياً وكان يريد أن يُعرف فخلق الخلق ليعرفوه و يعبدوه\” جاءت إجابة أبي المحترفة بدون أدنى تأخير..

-\”يعني ربنا كان وحيد عشان كده خلقنا؟\” انفلت مني السؤال دون أن أفكر في تبعاته.

-\” إخرس يا سافل يابن الكلب!\” قال أبي متضجراً وعيناه محمرتين من الغضب \”أنا مش عارف مين إللي بيحشي دماغك بالكلام الفارغ دا. لو سمعتك بتقول العك ده تاني حاقطم رقبتك!\”…

ذهب أبي غاضباً و ترك عشرات الأسئلة تتراقص في رأسي. ما الفرق بين أبي و أب إبراهيم \”إني أراك و قومك في ضلال مبين\”! يا إلهي! إلى من أذهب؟ من أسأل إذا أردت السؤال عنك؟ أنت لا تجيبني كما وعدت في قرآنك. وأبي –ظلك على الأرض- يغضب إذا أطلت الحديث عنك!))

كان \”شاكر\” في عمر العاشرة  أو الحادية عشر، لم يبلغ بعد، عندما دار هذا الحوار.. وبعده مباشرة تعرض شاكر للاغتصاب مرة ثانية!.. نعم.. مرة ثانية على يد صبية في القرية.. يصف \”شاكر\”:

(( كل شئ بدا سيريالياً كأنه حلم أو خيال.. لم تبد عضلات جسدي أي مقاومة، حتى ظن بعضهم أنني أتلذذ بما يفعلون.. كانت فقط بعض الخواطر تدور في ذهني وكأنني أحلم. كنت أراني أتحدث إلى الله: \”لماذا يا رب؟ لقد كنت أبحث عنك بشغف ولهفة طفل يتيم. أهذه إجابتك؟ هل يعجبك ذلك؟ أهؤلاء شباب خير أمة أخرجت للناس؟ ها أنت قد أكملت مذلتي، فماذا بعد في جعبتك أيها الرحيم؟))

سؤال الهوية الجنسية هو أول أسئلة الهوية التي واجهها \”شاكر\” في حياته، وكان ذلك بالطبع بسبب حادثتي الاغتصاب الشنيعتين.. انتظر بلوغه بفارغ الصبر لكي يتعرف على ميوله الجنسية، وعندما بلغ تبين له أن ميوله عادية تجاه النساء، بل إنه صار مثل أي مراهق طبيعي هيجاناً يمارس العادة السرية بشراهة، تلك العادة التي ظل يمارسها حتى علم من مدرس الدين في المدرسة ذات يوم (مثل الجميع) أن ناكح يده يأتي يوم القيامة بيده حبلى، وأن ناكح يده مثل ناكح أمه، فقال لنفسه:\”لا.. كله إلا أمي\” وتوقف عن ممارسة العادة السرية بعدها نهائيا.. إلى أن اكتشف ذلك الاكتشاف الذي هز كيانه: حين رأى بالصدفة أباه، إمام المسجد، وممثل الدين في قريتهم، وظل الله على الأرض، يدخن الحشيش، بل ويجلس أمام التلفزيون (الذي كان يسميه المفسديون) مع أحد الشيوخ أصدقائه يتغزلان في النساء.. كانت علاقته بأبيه معقدة ومتناقضة، تماماً مثل علاقته بالله، تأمل معي وصفه لأبيه:

))لم يكن في القرية كلها رجلاً يعرف عن الناس ما كان يعرف، كان يعرف أفكار الناس وأسرارهم، أحلامهم ومخاوفهم. لم يكن فقط إمام المسجد وإنما قاضياً يفض بين المتنازعين، وطبيباً يصف الدواء ويعطي التعويذات، كما كان مفسراً للأحلام. كان كل شئ: الغضوب الحنون.. الجاد الساخر.. الظالم المنصف.. الضارب لزوجته وولده والرفيق بالحيوان. كان الناس يحترمونه رغم تناقضاته.. مثلي تماماً. فقد كان دائماً مثلي الأعلى.. لم أر في حياتي رجلاً أثار انبهاري مثله))

ولذلك فبعد صدمته تلك وفي أول صلاة جمعة لم يطق سماع خطبة أبيه، وهرب من المسجد مهرولا إلى سطح المنزل، ليجد إحدى جاراتهم تستحم في حوش منزلها عارية، وكان ذلك المشهد البديع المعبرعن كل ذلك التناقض الذي يشعر به ويعيشه:

((جلست تحت مظلة فوق السطح ورحت أراقب جميلة جميلات القرية \”أنهار\” وهي تغسل جسدها الجميل. تسللت يدي بعفوية إلى \”عضلة الحب\” المنتصبة في سروالي وراحت تعبث بها. شعرت باللذة المحبوسة في قضيبي منذ شهور. معذرة يا أمي!! الأمر ليس بيدي! يدٌ حبلى؟.. \”أنهار\” تستحق هذه المخاطرة! لقد كان الأمر هزلياً أسطورياً أن أجلس بقضيب منتصب أراقب أمرأة عارية و في ذات الوقت أسمع صوت أبي يخطب الجمعة.. فسق و قرآن.. وعظ وهيجان في آن واحد!

\”إن للمتقين مفازا .. حدائق و أعنابا\”.. بعدما فرغ من حديث الجحيم بدأ في سرد محاسن الجنة ونعيمها. فالناس في بلادنا يحبون التوازن بين الترهيب والترغيب، وأبي يفهم طبائع البشر جيداً. والقرآن حريص على هذا التوازن، فقد وردت كلمة \”جنة\” نفس عدد كلمة \”نار\” في كتاب الله.

كنت أريد أن أسد أذني حتى لا أسمع وعظ أبي، ولكن يديّ كانتا منشغلتين بما هو أهم. دعني وشأني يا أبي.. إحك للجائعين عن ثمار الجنة و للمحرومين عن حورياتها، ودعني هنا استمتع بجنة تجري من تحتها \”أنهار\”.))

كبر \”شاكر\” والتحق بكلية الألسن في القاهرة على خلاف رغبة أبيه. عانى مما يعاني منه أبناء القرية عادة في المدينة –القاهرة- من إحساس بالاغتراب والانسحاق أمام قسوتها وجنونها وقهرها.

في القاهرة واجه سؤال الهوية الثاني، الهوية السياسية. انضم في البداية للماركسيين إعجابا بمثاليتهم، ثم تركهم وأنضم للإخوان المسلمين تحت وطأة الوازع الديني، لكن من الواضح أن هذا السؤال لم يشغله كثيرا على كل حال، ففي النهاية ساعده حبه للغات واتقانه لها على السفر بعد تخرجه إلى ألمانيا لإكمال دراسته..وفي ألمانيا واجه \”شاكر\” سؤال الهوية الأهم.. يقول:

((كنت أظن أن شربي للخمور سيسهل عليّ الاندماج في المجتمع الألماني ولكن الألمان أنفسهم كانوا يتعجبون كلما رأوني أشرب ويسألونني: \”سمعنا أن المسلم لا يشرب الخمر.. فلماذا تشرب؟\” كانت تضايقني مثل هذه التعليقات وتزيد من غضبي. كنت أريد أن يراني الناس فقط كإنسان، لكنهم كانوا ينظرون إلي أولاً كمهاجر وثانياً كمسلم: أي مشكلة مزدوجة! رحت أمارس الفواحش بأنواعها ولكنني لم أشعر بأي ارتياح.. شربت من المياة المالحة التي لم تزيدني إلا عطشاً وشعوراً بالذنب. كنت أحاول الابتعاد عن جذوري بقدر الإمكان. ولكني كنت في صميمي مرتبطاً بهذه الجذور برباط مطاطي. فكنت كلما ابتعدت عن الجذور يعيدني الرباط المطاطي ويرطمني بأصولي من جديد. وكيفما كان بعدي وسرعة هروبي كانت قوة ارتطام العودة!))

تعجب شاكر من حال المسلمين في ألمانيا، أكثر فئة منغلقة على نفسها وأكثرها كرها للمجتمع وأكثرها تناقضاً كذلك: كان من يقابلهم في المسجد هم أنفسهم من يقابلهم في البار، واستطاع أن يرى تناقضات المتدينين والدين نفسه من زاوية أكثر اتساعا، لكن ليس فقط المسلمون هم من أثاروا حيرته ودهشته، فأيضا الألمان كذلك، يقول:

((عجبت كم من الألمان يبحثون عن الأشكال المختلفة للروحانيات. كنت أظن أن الله قد مات إلى الأبد في أوروبا ولكنني رأيت الكثير من البدائل التي يعرضها المجتمع عوضاً عن الله: دورات تأمل سريعة ودورات تعرف على الذات. كان السوق يمتلئ بالكتب عن الروح و أسرار السعادة وتأثير النجوم على القدر))

وذهب \”شاكر\” كذلك يبحث عن الله في أماكن أخرى. سافر إلى شرق آسيا، وكانت له في \”اليابان\” تحديداً تجربة مثيرة يكشف لنا فيها كيف أن تصوراتنا النمطية عن هذا البلد البعيد ساذجة تماماً، وكيف أنه مجتمع جامد صلد بلا روح، على عكس الصورة الروحانية المتأملة التي تصل لنا عادة عنه، فلم يجد الراحة التي كان يأملها في أديان الشرق وروحانياته، فعاد مأسوفا إلى \”ألمانيا\”.

لكن من أهم الملاحظات على الإطلاق في هذه الرواية أن الشعور بالذنب كان محركا أساسيا لشاكر طوال رحلته، بدءا من ذلك الشعور بالذنب المقيم الذي يغرسه الدين في أتباعه، حتى بدون أن يفعلوا شيئا، وانتهاءً بالشعور بالذنب بسبب العنف الذي كان يتفجر من داخله بين الحين والآخر، والذي كان ردة فعل نفسية على العنف الذي تعرض له هو في حياته، والذي جعل الأمر ينتهي به في النهاية إلى احتجازه قسرا في \”مستشفى المجانين\” بعد عدة محاولات انتحار فاشلة، وبعد العديد من حوادث العنف التي قام بها ضد نفسه وضد الآخرين.. وفي المستشفى ذات مرة زاره أحد الأصدقاء العرب ودار بينهما هذا الحوار:

(-\”المؤمن مصاب دوماً يا شاكر!\”

-\”والله لو كان هذا صدقاً فلابد أن أصبح أنا أمير المؤمنين\” قلت له ساخرا

-\”ماذا تفعل هنا يا أخي؟ علاجك ليس في دواء الغرب ولكن في جذورك التي بعدت عنها!\”

تلى عليّ الزميل من القرآن \”ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم\” فقلت له:

-\”لست أنا من نسي الله بل هو الذي نسيني ونسي العالم منذ زمن\”)

هكذا في النهاية قرر \”شاكر\” أن يتخلص من الحجر في حذائه (على حد تعبيره) وأتخذ قرارا بالإلحاد لكي يريح نفسه، ذلك القرار الذي لا يبدو لي أنه كان بناءً على عدم اقتناعه بوجود إله، وإنما كان بسبب غضبه من ذلك الإله.. ذلك القرار الذي لا يتضح في النهاية إن كان قد أوصله إلى الراحة المنشودة التي يبحث عنها.

\”وداعاً أيتها السماء\”.. رواية خطيرة، تفتح الجراح المسكوت عنها، وتثير تساؤلات كثيرة كامنة بلا إجابة، لكن أكثر هذه التساؤلات إلحاحا عليّ بعد الانتهاء من قراءتها كان: \”هل سوف يحاسب الله \”شاكر عبدالمتعال\” على كفره به بعد كل ما ناله طوال حياته من عذاب؟\”.. دارهذا الحوار بين \”شاكر\” في أواخر طفولته وبين جده الذي كان ينازع الموت وقتها:

(-\”تفتكر ربنا هايغفر لي ذنوبي يا شاكر؟\”

-\”يا جدي أنا معرفش ربنا بيفكر إزاي! بس هو ربنا لو ماكنش يسامح البشر تبقى وظيفته إيه؟ أنا لو كنت ربنا كنت سامحتك. تفتكر أنا أرحم منه؟\”)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top