محمد حسنين يكتب: ليلة قاهرية

القاهرة الكبيرة بدت لي منذ لمسات أقدامي الأولى لأرضها هذا الصباح صغيرة، صغيرة جدا، ربما لأنني حزين، حزين أكثر من اللازم، حزين للحد الذي لا أعرف لهذا الحزن سببا. أخيرا، ذهبت إلى ألسن، أو الكنيست الألسني كما أحب أن أسميها، كالعادة ورغم سقف توقعاتي المرتفع لكل العوامل المؤججة لسخطي، أبدو أكثر سخطا وحنقا، مزاجي السيئ يتقابل مع سخطي وكرهي لها، يتفاعلون معا، يوحون لي بأن أصرخ عاليا: من أنتم؟ ما هذا المكان؟ ما كل هذا السخف؟ كيف تتحملون؟ كيف تطيقون؟ كيف تمشون داخلها بسهولة، كيف تمشون مطأطئين رؤوسكم، خانعين، قابعين، لا تنبسوا؟ ما الذي أتى بي إلى هنا؟ ما الذي أتى بي إلى هنا، على الاقل اليوم؟ أود لو أملك القدرة كي أفني هذا المبنى القابض في لحظة. أهرب سريعا قبل أن أرتكب أية حماقة.
ظهرا أخترق زحام العباسية باحثا عن شراء كتب، باحثا عن البهجة، لا أجدهما، لا أجد الكتب، لا أجد البهجة، فأسير من منشية الصدر إلى حدائق القبة في سبعة دقائق، وأرجع، أرجع لا أعلم سبب الذهاب أو الرجوع، ينتهي بي الحال إلى الجلوس على المقهى، لا يمضي وقتا طويلا ويكتنفني الملل، فيبدو لي أن الملل جاء معي من السويس إلى القاهرة، ربما تسلل في حقيبة الملابس، ربما تسلل وسط ملابسي الشتوية، ربما يكون الملل في أنا وأنا أظلمه. فقمت كي لا أستسلم، إلى كل تلك الأشياء التي تحتلني وتخنقني، وتجعل روحي باهتة. لن أجلس في مكان أكثر من ساعة، هكذا كنت أردد داخلي، ذهبت لشراء بعض الأشياء من شارع الجمهورية، بدا الشارع خانقا كعادته في تلك الفترة من اليوم، كعادته دائما، كلما أزوره كل فترة أجده أكثر قسوة وخشونة، ومع ذلك كنت تستطيع أن تشتري ما تريد بأسعار كنت تضعها في حسبانك مسبقا، اليوم الوضع صار مغايرا، تلك الأشياء التي كنت تفاصل في أثمانها، تترك أصحابها عندما لا يعجبك ثمنها، وتشعر بلذة الانتصار عندما ينادون عليك كي تشتري بالسعر الذي تريده، صارت أسعارها جامدة لا تقبل النقاش، صارت راسخة كرسوخ الحكم العسكري لمصر، إن لم يعجبك السعر فاذهب، لن يناديك أحد، عندما قلت لذلك الرجل العجوز أن هذا الثمن باهظ جدا، رد عليّ متهكما: غدا سيرخص، وكان محقا، كل شيء ها هنا سيرخص عما قريب. حتى سور الأزبكية بدا لي مريضا، الأرفف تغزوها الكتب الرديئة، أما الكتب الجيدة يبدو أنها تواري الثرى، لم أجد سوى كتابا واحدا مما أريد، للحظ أنه مجموعة أعمال، ربما رق لحالي وأشفق عليّ من هم الرجوع وحيدا. وسط تلك الأجواء العابسة، العابثة، لم ألمح غروب شمس الشتوية، ذلك الغروب الذي أنتظره منذ مايو الماضي، عندما كنت ذاهبا لمشاهدة مباراة نصف النهائي لدوري أبطال أوروبا، حينها رأيت السماء ملونة بزرقة تشبه زرقة اللون الأزرق في الألوان الخشب المائية، فأحسست بالحنين إلى لحظات الغروب في الشتاء، رغم عشقي للصيف، فانتظرتها منذ تلك اللحظة، وها هي عندما جاءت لم ألحظها، هكذا أنا دائما.
في الليل كانت القاهرة سخيفة وحزينة أكثر من اللازم، أكثر حتى من الصباح، رغم أن ليل القاهرة دوما ما كان يمنحني حلوى الونس، كانت ثمة ابتسامة تعطي طمأنينة وحب، لم تعد.

أسير في شوارع مدينة نصر وحيدا، لا أنتِ معي، ولا أنا معي، ليتك كنتِ معي، ربما كنت أتذوق تلك المدينة لأول مرة في عمري، فأنا لا أحبها، وهذا ما زادني غربة، أسير أنظر إلى كل تلك البنايات الضخمة بلا معنى، وبلا فلسفة وجودية، ادقق النظر في محلاتها؛ الطعام، القهوة، الملابس، الشركات، البنوك، المقاهي الحديثة، بدت لي كأنها تتزيف،
كالمنشئات الحكومية قبيل زيارة وزير أو ما شابه، بدت لي تتكلف الجمال والرونق، لا وصف لها سوى أنها بهرجة بلا معنى، كانت تشبه النساء المصطنعة التي تضع مساحيق التجميل بتكلف، اكتملت غربتي بعدم شعوري بأية نسمة هواء، الهواء يخاصمني منذ أغسطس، يخاصمني حتى في نوفمبر، بت أشعر أنني أتنفس أنفاسا معادة، أعيدها مني إليّ حتى صارت أشبه بالطبيخ البائت. أبدو باهتا، يسألني صديقي ما بك؟ فأرد لا شيء، وأسمعني أردد صامتا لا شيء سوى مرارة، فأقول له بعد برهة صمت، هيا لنذهب.
في طريقنا إلى الشروق كالعادة نمر على تلك المنطقة التي تحدها أسوار ممتدة يمينا ويسارا مكتوب عليها: احذر منطقة عسكرية!
بعد تخطيها، رأيت لوحات إعلانية، عالية وضخمة، لم أدقق فيما تحوي، فقط اجتاحتني الدهشة، لمن تلك الإعلانات، كم أحدا هنا يستطيع أن يتمتع بما تقدمه؟ وكيف؟ كم من أرجل تدهس أيادٍ عاملة؟ آه آه، اليسارية تجهز على فتاتي المتناثرة، ووجدتني أردد في صمت يكاد يتخلى عن وقاره ويصرخ: أخرجوني من مصر، أخرجوني إلى روحي.. إلى روحي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back To Top